من طرف ماركوس الجمعة يونيو 27, 2008 10:40 pm
مقال
بقلم رشاد أبو شاور
عام 1984، رحل الشاعر الكبير معين بسيسو في
العاصمة البريطانية (لندن)، ولم تكتشف وفاته إلاّ بعد 14 ساعة لأنه كان
يعلّق علي باب غرفته بالفندق الذي نزل فيه عبارة: الرجاء عدم الإزعاج.
رحل معين بسيسو شّاباً في السابعة والخمسين، فهو ولد في (غزّة) بتاريخ
10 تشرين الأوّل (أكتوبر) 1927.
كان يريد أن ينام، أن يرتاح، ولكن قلبه الذي أجهد نبض نبضات سريعة،
ربّما احتجاجاً علي إرهاق الشاعر له، فمدّ معين يده إلي الهاتف يريد
طلب المساعدة، ولكن الوقت كان قد فات...
عندما فتح باب الغرفة، وجد الشاعر نائماً، ويده ممدودة إلي الهاتف في
مشهد جامد.
مفارقة هذه، أن يموت شاعر فلسطيني في (لندن) عاصمة السياسة التي كانت
أس المصائب، وأصل النكبة والخراب في فلسطين، وأن لا يحظي بالراحة، ولا
يصل نداء استغاثته بطلب العون، ثمّ ينقل جثمانه ليدفن في القاهرة،
محروماً من دخول غزّة ، حتى بعد أن مات، وهذا ما يدّل علي مدى حقد
عدونا على الشعر والشعراء.
كأنما هذه حكاية الشعب الفلسطيني، مع فارق أن شعبنا حي، وأنه يمضي علي
طريقه، وأنه يتقوّي بصوت الشاعر، وبالشعر، حداءً لأمل سيتحقق. معين
بسيسو، الفلسطيني، الغزّي، المدفون في ثري مصر الطهور، بين من أحبهم،
لم تسمح سلطات الاحتلال الصهيوني لجثمانه بالدخول ليدفن هناك في تراب
غزة الذي درجت عليه أقدامه، والشاهد الأول لتفجّر موهبته الشعرية.
حدث في زمن بعيد، أن أخرج أبي يده من تحت عباءته ومدّها وقد طوت كتاباً
رقيقاً غير مدرسي، وقال لي محتفياً:
ـ هذا شعر لمعين بسيسو.
ثمّ طلب منّي أن أقرأ، فقرأت...
كان الأب الأمّي فخوراً برفيقه، رغم أنه لا يعرفه، وكان يريد لابنه أن
يحفظ هذا الشعر، وأن يصونه في ذاكرته، فهذا الشعر يصل كالمنشورات
السريّة، وهو بذور لا بدّ لها من تربة لتخصب فيها، وتربة الشعر هي
النفوس، والعقول...
كبرت، وعرفت من هو هذا الشاعر، وصرت أقرأ شعره دون حّث من الأب، ولكن
بحافز منّي، فشعر معين بسيسو يشّد العزيمة، ويقوّي المعنويات، وهو قريب
إلي روحي.
ردد أبي وقد حفظ لفرط ما تلوت علي مسمعه:
من لم تودّع بنيها بابتسامتها
إلي الزنازين لم تحبل ولم تلد
وحفظ عن ظهر قلب:
أنا إن سقطت فخذ مكاني يا رفيقي في الكفاح
واحمل سلاحي لا يخفك دمي يسيل من السلاح
وكان يدخل السجن، ويخرج، وفي يقينه أنه ينبغي أن يكون إبناً لائقاً،
شجاعاً ومفتدياً، ومضحيّاً، لتباهي أمّه به، وليعش هو في أفئدة
الجماهير مكرّماً، تماماً كما يقول شعر رفيقه معين بسيسو. هذا شعر
يشجّع، يغذّي الروح بالإيمان، يدحر الشعور بالعزلة بعيداً عن ضمير
المناضل المضحّي، الذي يتعرّض لكّل ما يتسبب له بالأذي، والإحباط.
صوتان وصلانا من غزّة: صوته وصوت هارون هاشم رشيد، وبشعرهما عشنا مع
(غزّة) المأساة والمعجزة.
شعرهما انتشر موحّداً مشاعر الفلسطينيين، ومنشئاً صلة وصل بينهم، إن في
منافيهم البعيدة، أو في مخيّمات اللجوء في الضفّة الفلسطينيّة،
وسوريّة، ولبنان.
صورة معين بسيسو وصلت إلينا كما يليق بالشاعر، فهو يتقدّم المظاهرات،
بقميص مفكوك الأزرار عن الصدر، مشرع للاستشهاد، هاتفاً بشعره، رافضاً
مع شعبه التوطين في سيناء، فلا بديل عن فلسطين.
تلك كانت صورة الشاعر، الذي ينتسب إلي سلالة شعراء، حملوا دمهم علي
راحاتهم، ومضوا في مقدمّة الصفوف، بكامل عدّتهم: الموهبة الشعرية،
الالتزام، حمل المبادئ، الجاهزية للتضحيّة، بمصداقية القول المقترن
بالفعل. إن دور شعرائنا التنويري، التثويري، قد دشّن منذ بداية الصراع
والاشتباك مع الحركة الصهيونيّة، والاستعمار البريطاني، والمؤامرات
المحليّة المتصاعدة علي عروبة فلسطين، وها هم شعراؤنا أحياء يرزقون
بيننا: إبراهيم طوقان، عبد الرحيم محمود، عبد الكريم الكرمي (أبو
سلمي)، مطلق عبد الخالق، حسن البحيري، نوح إبراهيم الشاعر الشعبي، محمد
العدناني، كمال ناصر، فدوي طوقان، علي فودة، فوّاز عيد... ومن بعد، حين
وقعت النكبة، وهيمن اليأس، والشعور بالعجز، ارتفعت أصوات شعرائنا، حاضة
علي الصبر، والتشبّث بفلسطين، والاعتماد علي النفس، وفاضحة الخيانة
وأسباب الهزيمة والكارثة، ومحرّضة علي مواصلة المعركة.
قد يقال بأن هذا الشعر فيه مباشرة، وتحريض آني، والحق أن تلك المباشرة
حملتها مواهب أصيلة ذكيّة، عرفت كيف تغوص في عمق الحدث، وتستخرج منه
قيماً إنسانيّة جوهرية لا تموت مع الزمن.
ما كان صدفة أن عنوان أحد بواكير أعمال معين بسيسو هو (المعركة)،
فشعراء فلسطين قديماً وحديثاً يعيشون في المعركة، وفي نيرانها يكتبون،
وهم يكتبون عن الوطن، والشهادة، والبطولة، والتضحية، والحب، والمنفي،
والعودة التي ستتحقق، وهم يتأملون في مصائر البشر، والحياة، والكون،
فهم لا يغلقون علي أنفسهم، وما هو بغريب أن الفلسطينيين كانوا في مقدمة
من ترجم عن الغرب روائع أدبية، وفلسفيّة ...
معين بسيسو شاعر معركة، واشتباك، يحيا، ويتألّق، ويجوهر في الميدان،
بين الناس في أتون المعركة... من عرفه في غزّة رآه شاعراً ومناضلاً في
الميدان، يتقدّم جموع الفلسطينيين الرافضين للتوطين في صحراء سيناء،
والمطالبين بالتسلّح للتصدّي لاعتداءات المحتلين الصهاينة، وكانت آنذاك
قد ازدادت علي قطاع غزّة.
كان معين بسيسو يباهي بأن أهل غزّة أفشلوا مشروع التوطين، وكانوا السبب
في صفقة الأسلحة التشيكيّة التي أبرمتها مصر الناصرية، ليتمكن جيشها من
الرّد علي الاعتداءات، وتدشين حقبة العلاقة مع الاتحاد السوفييتي، أي
أن هذا التحوّل الاستراتيجي كان فيه دور بارز لفلسطينيي غزة الأباة
العنيدين المكافحين.
من عرفوا معين بسيسو آنذاك، رأوه وهو يشرّع صدره للبنادق، هاتفاً باسم
فلسطين، معلياً من شأن البطولة والتضحية. هنا كان صوت عبد الرحيم محمود
يتجاوب، يتناسخ، يتواصل في حنجرة معين وكلماته...
إنه صوت معين بسيسو الذي تحدي قوات العدوان الثلاثي عام 56:
قد أقبلوا فلا مساومة
المجد للمقاومة
لم يكن هذا مجرّد شعار، لقد كان قرار حياة، فيه تتجاوب روح عبد الرحيم
محمود:
فإمّا حياة تسّر الصديق وإمّا ممات يغيظ العدا يستمّد شعر (معين) قيمته
من أنه يكتنز معني الحياة، كرامتها، قيمتها، في كلمات قليلة، يقولها
شاعر أصيل الموهبة، عميق الثقافة، صاحب مباديء.
من غزة انتشر صوت معين بسيسو في بلاد العرب، فالتقطه الفلسطينيون،
وأنشدوه، وعمموه، وتبنّوه. معين ابن الشعب، وصوت الضحايا، كما وصفه
شاعر مصري شعبي:
يا معين يا صوت الضحايا
معين هذا تعرّض للسجن، للمنافي، للمطاردة، في عدّة أقطار عربيّة، وحافظ
علي صلابته الروحيّة، وتقوّي بالشعر علي المصائب والصعاب. كل من تعرّف
بمعين، لمس فيه روح ابن البلد، الطيّب، العفوي، البسيط، الشعبي، القريب
إلي القلب، والذي تبلغ فيه حدود البساطة مدي يسهّل علي المخادعين أن
يستغلّوا كل هذه المناقب.
معين بسيسو وفي، وأنا رأيته مراراً يزور مخيّم (اليرموك) قرب دمشق
العاصمة السوريّة، ليلتقي برفاقه (الشيوعيين) الغزازوة الذين أقام كثير
منهم في المخيم، وكان يعني بهم وبأسرهم بصمت وتواضع ووفاء نادر. هذا
الشاعر إبن الشعب، صوت الضحايا، ما في جيبه ليس له، سعادته أن يسمع
كلمة طيبة وكفي. في المعركة يجوهر معين، ولذا امتلأ حماسة أثناء معركة
(تل الزعتر). كان يكتب ليل نهار، يرسل صوته إلي المحاصرين بين أنياب
الانعزاليين الوحوش، يحمل مسدساً ويمشي في الشارع، فهو في (المعركة)
وهو يقول الشعر، يندفع في الشوارع ممتلئ الصدر صهيلاً.
كان يصيح من جذور قلبه:
الآن، خذي جسدي كيساً من رمل
الشعر عند معين هو دعم لوجستي، كالذخيرة، كالتموين، به يصمد المحاربون،
فالروح بحاجة للغذاء، والشعر غذاء الروح، به تتقوّي وتنتصر...
عام 82 كان يشارك في مؤتمر أدبي في (طشقند)، وعندما سمع ببدء العدوان
علي الثورة الفلسطينيّة والحركة الوطنيّة اللبنانيّة، بادر بالعودة
سريعاً إلي (بيروت) مخترقاً الحصار، ليكون مع الفلسطينيين واللبنانيين
في المعركة، إذ لا يعقل أن تكون معركة، ويكون معين بعيداً يتفرّج. منذ
لحظة وصوله انخرط (معين) في المعركة شعراً، ونثراً، وبدأ يكتب زاويته
(متاريس) حاضّاً علي الاستبسال:
ولدي محمّد: في ظلي الدامي تمدد
أو فوق ركبة أمك العطشي تمدد
وإذا عطشت وجعت فاصعد
هي الكلمة الشجاعة في وجه الظلم والجور والطغاة ، وقد قالها معين
صادقةً، ودفع الثمن مراراً ولم يركع. ولأنه شاعر مقاومة، ولأننا في
بيروت قررنا أن نقاوم مع البنادق بالكلمات، فقد أسسنا صحيفة (المعركة)
اليوميّة، واقترح بعضهم أن نضع ترويسة علي صفحتها الأولي مقطعاً من
قصيدة شاعر المقاومة الفرنسي (أراغون):
اللعنة علي العدو المحتل
ليدو الرصاص دائماً تحت نوافذه
وليمزّق قلبه الرعب
ولكننا ثبّتنا منذ العدد الخامس مقطعاً من قصيدة معين:
اقبلوا فلا مساومة،
المجد للمقاومة...
في (المعركة) التقي الكتّاب والشعراء من كل الأقطار العربيّة : فلسطين،
الأردن، مصر، لبنان، سوريّة، العراق، وقاوموا بكلماتهم، وبعضهم شارك في
إذاعة (صوت الثورة الفلسطينيّة)، وكانت تلك أيّاماً مجيدة لتلاحم
الكلمة والبندقيّة، تعبيراً عن صمود الناس، والتصدّي للإعلام الصهيوني
والكتائبي الانعزالي، وحربهما النفسيّة.
معين بسيسو كمبدع يتمتّع بموهبة فذّة، وثقافة إنسانيّة فسيحة، وهو لا
يكتفي بالتعبير عن رؤيته بالشعر، فقد كتب للمسرح، وقدّمت مسرحياته في
القاهرة، ودمشق، وبعض الأقطار العربيّة.
نثره يعتمد الجمل القصيرة المتوترة، وإذ تقرأه تحسب أن الشاعر يكتب وهو
يركض في الشوارع، والأزقّة، والحواري، وفي القطارات، وعلي سطح سفينة
تضربها أمواج عاتية، فهو يكتب ويركض من جهة إلي جهة، للتواري عن عيون
مطارديه، لا خوفاً ولكن ليكتب ويوّزع ما يكتبه كالمنشورات السريّة،
حريصاً علي تأدية دوره علي أتّم وجه للمساهمة في إنقاذ السفينة،
وبلوغها شاطئ الحريّة والأمان.
المرحلة المصرية في حياته صبغت شعره، وذوقه، ومزاجه، فهو ترعرع ونما في
أحضان الحركة الثقافية في مصر، وارتبط بصداقات هي الأعمق في حياته،
وبخّاصة مع عبد الرحمن الخميسي، الشاعر، والقّاص، والفنان، والممثل،
والمخرج السينمائي.
ودائماً تكلّم بحب عن الخميسي، وهو الذي استضافه مراراً في (بيروت)
وقدّمه، وعمل علي إعادة طباعة أعماله الشعرية.
ثمّة ما هو مرح، وفكه بينهما، وفي حياتهما، فالمقالب لا تنتهي بينهما،
معين كان مصري المزاج، والذوق، وهو ما نلحظه في شعره، ومسرحه الشعري،
وأسلوب حياته.
الثلاثاء فبراير 28, 2023 12:27 am من طرف samarahmad78
» خسارة عليك يا منتدى النسر الاحمر
الأحد فبراير 26, 2023 1:48 am من طرف راهب الفكر
» أقوال جورج حبش
الأحد فبراير 26, 2023 1:47 am من طرف راهب الفكر
» اليسار التونسي الآن وهنا
الثلاثاء مارس 02, 2021 11:20 am من طرف mouyn
» أغنية يا أسرانا يا بواسل (جديد الشعبية)
الإثنين ديسمبر 10, 2018 12:52 am من طرف Iyad
» أغنية يا أسرانا يا بواسل (جديد الشعبية)
السبت ديسمبر 08, 2018 6:14 pm من طرف Iyad
» فش غلّك واحكي .^ اكثر ظاهرة او عادة بتتمنى زوالها من مجتمعنا ^.
الخميس فبراير 22, 2018 5:00 pm من طرف زهر اللوز
» اربع كلمات تكشف عن حالتك
الخميس فبراير 22, 2018 4:58 pm من طرف زهر اللوز
» حصريا اغنية غسان كنفانى اسمو على الريشة
الجمعة أغسطس 21, 2015 2:33 pm من طرف ابو الحكيم 1
» احدث اغنية للجبهة:هيلا هيلا ديمقراطية جبهة قوية 200% تربي رجال
الخميس فبراير 26, 2015 12:56 pm من طرف ابن الديمقراطية
» مرحبا
الأربعاء يناير 28, 2015 9:33 am من طرف mared althawra
» أغاني رائعة للفرقة اليسارية...فرقة الطريق العراقية
الثلاثاء يناير 27, 2015 6:22 am من طرف izzildin
» جميع البومات فرقة صابرين
الخميس سبتمبر 18, 2014 9:56 am من طرف ooyy
» ويستمرّ النضال في تـــونس..
السبت مارس 29, 2014 8:16 am من طرف mouyn
» حصريا اغنية وصية الشهيد من شريط الهدف 11
الأربعاء مارس 12, 2014 4:53 pm من طرف safwan zaben
» اغنية الزحف الجبهاوي للانطلاقة 42
السبت فبراير 15, 2014 12:06 pm من طرف mof2014
» حصري على ملتقى النسر الاحمر اغنية القدس تشرررع
السبت نوفمبر 30, 2013 12:40 am من طرف القدس عربية
» ******* ابو الفقر .. حداية نار موسى حافظ والجلماوي وكمان شاعر ثالث
الخميس أكتوبر 24, 2013 3:43 pm من طرف غالوب
» اشحن رصيدك مجانا
الإثنين سبتمبر 09, 2013 9:04 pm من طرف ندي فلسطين
» ماتفوت لهون
الجمعة يوليو 26, 2013 3:11 pm من طرف yayaba007