آه. آلام رأسي وقلبي يضاعفها الجوع. لم أتعشّ اليوم.
حينما تطرح مسألة عودتهم, لا يخطر لنا أنهم أصحاب الحق الشرعيين وحدهم. فلولا استشهادهم, لظل كل ما كان على ما كان.
نعم. لو أردنا فعلاً تغيير ما كان مثلهم, لما كُنّا أحياء. لدفعنا بأنفسنا بقوة في المعركة, ولما ظللنا نتحايل على الموت بشكل أو بآخر.
رباه. إذا ما أدرك العائدون هذه الحقيقة, ألا يندمون على تضحيتهم?
رباه. إذا ما أدركت الأجيال القادمة هذه الحقيقة, أو تقدم على التضحية مرة أخرى?. آه رأسي آه, قلبي, ركبتاي, معدتي.
- كان الله في عونك يا عمي العابد.
انتفض واتجه لي مصدر الصوت ويده ممتدة لتمسك بصاحبه.
- مساء الخير يا ابني. انتظر, انتظر. عندي معك كلمة.
- خير إن شاء الله يا عمي العابد, لقد وصلك المتأخر من منحتك على ما أعتقد.
- هذا هو الموضوع الذي أريدك فيه.
- لماذا لا تأتي إلى القبّاضة البلدية صباح الغد?
- المسألة في الحقيقة لا تحتاج إلى حضوري. إنها عامة. مجرد سؤال أريد طرحه عنك.
- تفضل.
- إذا ما عادوا. ما يكون موقف الخزينة. أنت تعرف بصفتك مسؤول قباضتنا.
- من يعود يا عمي العابد?
- الشهداء الذين تدفع الخزينة منحة موتهم لذويهم.
- لكن هذا مستحيل يا عمي العابد.
- بلغني من مصدر مطلع بأن شهداء القرية كلهم أو على الأقل بعضهم سيعودون. لا تناقشني في هذا. أجبني فقط عن موقفك كرئيس القباضة, تخرج من يديك منح.
- هذه مسألة لم تخطر بذهن أحد قط يا عمي العابد. ولكن في انتظار أن يثبت العائد حياته أمام المحاكم, وهذه مسألة تتطلب إجراءات طويلة تستغرق عدة سنوات, نوقف المنحة رأساً.
- وما تم دفعه يا ابني?
- آه. هنا وجدتني أحتار. ولكن المسألة تبدو من وجهة النظر القانونية واضحة. لقد خرجت من الخزينة أموال بدون موجب, فلا أقل من مطالبة الخزينة للمعني, أو لورثته, بإعادة تلكم الاموال. وعلى ما يبدو لي شخصياً, فإن المسألة - وإن كانت قانونية - تبقي استمرار, خاضعة لمتصرف القباضة, ففي وسعه أن يقدم تقريراً, وقد يكون هذا التقرير واضحًا صريحًا. أو غامضًا مبهمًا, كما في وسعه أن لا يقدم أي تقرير ويكتفي بإشعار مرؤوسيه بأن المنحة سقطت قانونياً من صاحبها, وفي وسعه أن يقدم بنفسه قضية أمام العدالة. والله. المسألة مع أنها واضحة قانونياً, فإن لها أوجهاً كثيرة.
- أشكرك يا ابني. فهمت من كلامك أن عودتهم تطرح إعادة النظر في كثير من الأمور.
- آه هذا واضح, عودتهم مشكلة في الحقيقة.
على كل يبقي لهم الحق كقدماء مجاهدين وليس كشهداء.
بالإضافة إلى أن اللجنة الوطنية التي تمنح الشهادات البلدية عن الماضي الثوري قد أنهت أعمالها فإن عليهم ليكونوا ملفات الطلب, أن يحصلوا على أوراق عديدة, لا تتيسر لهم, إلاَّ إذا حصلوا على شهادة الحياة. من وجهة النظر القانونية البحتة, يمكن ألا يحصلوا على هذه الشهادة إطلاقاً. تصور أن المجتمع, وفي مقدمته ذووهم ينكرهم ويتجاهلهم أو حتى يرفع دعاوى ضدهم بصفتهم محتالين. أقصى ما يفعلونه هو أن يخضعوا للأمر الواقع ويظلوا هامشيين. سينتحر الشرفاء منهم ولا شك.
- ولكنهم كلهم شرفاء, يا ابني. إنهم أقدس شيء نعتز به.
- لا من عاد من القبر وأتى بالخير, يا عمي العابد.
تضايق الشيخ العابد, وواصل انحداره, في الشارع الذي بدأ يقترب من مركز القرية, ليستأنف صعوده إلى طرفها المقابل.
- مساء الخير أبي العابد.
اتجه إلى مصدر الصوت الذي كان قريباً منه, وتشبث بصاحبه وهو يتمتم:
- الخير والهناء يا ابني.
- أحدث لك مشكل يا أبي العابد.
- آه. هذا أنت يا - الكومينيست ?
- مرّ ذلكم الوقت يا أبي. الآن مسؤول الفرع النقابي لعمال السكك الحديدية لا غير. أتذكر يا أبي ما كان يقوله الضابط, وهو يعذبنا معًا.
- أذكر يا ابني.
- ما زلت أسمع ذلكم الكلام حتى الآن يا أبي.
- عذبوك أكثر منا. كانوا يدبّرون قتلك.
- قرر مسؤول القسمة أن يبعدني من الحزب والناس يا أبي العابد.
- ولكن لماذا?
- قلت إنك تذكر عبارات الضابط: الجرثومة الخطيرة في هذه الحركة.
- نعم.
- هذا ما يتردد الآن أيضاً.
- يطول الدهر, ويتقطع - الطفر - يا ابني. أريد أن أسألك.
- تفضل. خير إن شاء الله!
- إذا ما عاد الشهداء?
- أتعني كل الشهداء?
- نعم.
- يرتفع عدد السكان أكثر, وتتراكم المشاكل الاجتماعية.
- ولكن ليس من هذه الزاوية. أريد أن أقول, هل نقبلهم أم لا.
- ستوجد طريقة لقبولهم, يستدعون رأساً إلى مراكز التدريب, ويلبثون هناك عدة سنوات بدون سلاح وبدون أي اتصال بالخارج, ثم يشرع في إطلاق سراحهم, فرداً فرداً, بدءاً بالضباط السامين الذين تمنح لهم قروض هامة, أو يعينون رؤساء مديرين على الشركات التي تكون قد انتشرت أكثر يومها. ثم يأتي دور الجنود البسطاء, الذين يوزعون على مزارع التسير الذاتي التي تقتطع لهم بكل جدارة واستحقاق.
- أهذا موقفك يا ابني? إنك أنزه من أن تقول هذا الكلام.
- لكنك لم تسألني عن موقفى الشخصي يا أبي العابد لقد قلت هل نقبلهم أم لا.
وما موقفك?
- اسمح لي أن أحتفظ به يا أبي العابد. لا أستطيع أن أعلن عنه دون الاتصال بهم أولاً وقبل كل شيء.
- ولكن هل ترحب بعودتهم أعني?
- من الناحية النضالية, فحسب الأفكار التي يعودون بها. أما من الناحية الاجتماعية, فاسمح لي أيضاً أن أحتفظ برأيي الشخصي. أنا نقابي يا أبي العابد, والأمور مختلطة متداخلة, بحيث يصعب اتخاذ موقف ارتجالى هكذا.
شكر الشيخ العابد مسؤول الفرع النقابي, وواصل طريقه, مع المنحدر, وهو أشد حيرة من قبل.
هذا ليس سلطة, فلماذا لا يرحب بعودتهم. إنه لم يعلن عن معارضته. تحفظ مع ذلك. ثوري مخلص, أعرف عمله الثوري قبل أن يلقى عليه القبض وأشهد على صموده في المعتقل أمام العذاب الشديد. لماذا لم يتحمس لخبر عودتهم, ألأنه في شك من أنهم لن يعززوا صفه, كما يتوقع منهم? الله أكبر.
حتى الذين ضحوا بأرواحهم من أجل إسعادنا, نشكّ في موقفهم من القضايا الثورية.. أية أفكار يمكن أن يعودوا بها غير التي ذهبوا بها, غير التي ماتوا من أجلها?. إذا كنا نحن الأحياء, قد وقعنا في فخ الخونة والانتهازيين وغرقنا في متاع الحياة ولم ننتبه إلى أن العربة التي نركبها فصلت من القطار, فهؤلاء الأعزاء المقدسون بالإضافة إلى أنهم أخلصنا, لأنهم ضحوا أكثر منا, لم يلوثوا بمشاكل الحياة بعد.. إنهم القطار الذي يلج النفق ويدفع العربة المنفصلة أمامه.
لعل الاصطدام يخرج العربة, والقطار عن السكة. لعل القطار يأتي من الجانب الآخر ليعيد العربة إلى الخلف.
الله أكبر.
حتى أنا بدأت أشك, بدأت أتفلسف في أعز وأقيم شيء نفتخر به. (الكومنيست) لعين, يريد أن يعرف أفكارهم أولاً, ليعلن عن موقفه.
- آه, ما تزال هنا يا أبي العابد?
- أهذا أنت يا (الكومنيست) ?
- نعم, نسيت أن أقول لك - فيما يتعلق بهم - يمكن أن نقبلهم بشكل آخر. مثلما قُبل المجاهدون والمناضلون العائدون من الجبال والسجون والمنافي الاستقلال, نقيم الأفراح والأعراس, والمهرجانات لاستقبالهم.
- لا. لا. إلاَّ هذا.
قاطعة الشيخ العابد في حنق, ثم ابتعد عنه وهو يتمتم.
- لا تحدثني أكثر أيها اللعين.
- أبي ما بك?
خاطبه ابنه وهو يمسك من ذراعه وسط القرية, مفترق الطرق.
- هذا أنت? من أين خرجت?
- من المنزل, كنت أبحث عنك, لم تعُد منذ غادرتنا هذا الصباح, أين كنت?
- لماذا تسأل عني? اسمع إذا ما عاد مصطفى أخوك ماذا تفعل?
- يعود مصطفى أخي?
- نعم يعود. يعود. إنه عائد هذا الاسبوع.
- وماذا تقول أنت يا أبي?
- اغرب عن وجهي .. الذنب ليس ذنبك, إنه ذنبي أنا, ذنبنا جميعاً. أخبر أمك وزوجتك وأبناءك.
خلص ذراعه من قبضة ابنه, ومرّ في طريقه, يردد:
- لا بد أن أتحدث مع إمام المسجد, هو أدراهم. أدرانا جميعاً.
واتجه مباشرة نحو المسجد, انتظر الإمام حتى فرغ من صلاة العصر وأشار إليه بيده:
- أريد أن أتحدث إليك.
- ألم تكن تصلي معنا?
- لست متوضئاً. أريد أن تفتي لي.
- في أي أمر.
- تعلم أن ابني مصطفى لم يعد مع العائدين.
- استشهد.
- لنقل ذلك. زوجته التي فارقها بعد أربعة أشهر من الزواج انتظرت في بيتي حتى تأكدنا من استشهاده.
- وبعد ذلك?
- زوّجتها لأخيه الأصغر, وله منها أربعة أطفال.
- أو فعلتم هذا? أو أتيتم هذا الأمر? لا حول ولا قوة إلاَّ بالله!
- وماذا فيه يا سيدي الشيخ?
- حرام. كفر. زنى. أعوذ بالله.
- ماذا تقول?
- كيف تجرؤون على تزويج امرأة غير مطلقة.
- لكن زوجها ميت ولدينا وثائق موته وقد عقدنا عند القاضي.
- هذا كفر يا الشيخ العابد. كفر يا الشيخ العابد. كفر بالله ورسوله وبكتابه. ابنك شهيد, والشهيد غير ميت, إنه حي عند ربه يرزق. ألم تقرأ الآية المكتوبة في كل ساحات القرية?. وثيقة الموت هنا, تلاعب قانوني من أجل ترسيم أشياء لا معنى لها من حيث الشرع. عندما يكون الأمر يتعلق بزوجة شهيد, فلا بد من الطلاق. هذا زنى. أعوذ بالله, كنت أظنك أعقل مما يتكشف لي يا العابد, حتى الغيبة وإهمال بيت الزوجية لا تنطبق عليهم لأننا نعرف مقرهم. يا للكفر والإلحاد..
- وما العمل يا سيدي الشيخ?
- يقام الحد على الزاني والزانية.
- هكذا يا سيدي الشيخ?
- ويبقي الخيار للزوج الأول في الطلاق أو في إعادة زوجه إلى بيته. المسألة بالنسبة إليكم تتعدى حدود الزنى. إنها كفر بالقرآن الكريم وبآياته الصريحة. أو لا تعلمون أن حياة الشهداء تجمع عليها كل الأديان والنصارى ينتظرون إلى اليوم عودة المسيح لأنه شهيد. ينبغي أن تعلنوا إسلامكم من
جديد وأن تكفروا وتتوبوا وتستغفروا, عله سبحانه وتعالى يقبل منكم
يـــــــــــــــــــتــــــــــــــــــبـــــــــــــــــــــــع
الثلاثاء فبراير 28, 2023 12:27 am من طرف samarahmad78
» خسارة عليك يا منتدى النسر الاحمر
الأحد فبراير 26, 2023 1:48 am من طرف راهب الفكر
» أقوال جورج حبش
الأحد فبراير 26, 2023 1:47 am من طرف راهب الفكر
» اليسار التونسي الآن وهنا
الثلاثاء مارس 02, 2021 11:20 am من طرف mouyn
» أغنية يا أسرانا يا بواسل (جديد الشعبية)
الإثنين ديسمبر 10, 2018 12:52 am من طرف Iyad
» أغنية يا أسرانا يا بواسل (جديد الشعبية)
السبت ديسمبر 08, 2018 6:14 pm من طرف Iyad
» فش غلّك واحكي .^ اكثر ظاهرة او عادة بتتمنى زوالها من مجتمعنا ^.
الخميس فبراير 22, 2018 5:00 pm من طرف زهر اللوز
» اربع كلمات تكشف عن حالتك
الخميس فبراير 22, 2018 4:58 pm من طرف زهر اللوز
» حصريا اغنية غسان كنفانى اسمو على الريشة
الجمعة أغسطس 21, 2015 2:33 pm من طرف ابو الحكيم 1
» احدث اغنية للجبهة:هيلا هيلا ديمقراطية جبهة قوية 200% تربي رجال
الخميس فبراير 26, 2015 12:56 pm من طرف ابن الديمقراطية
» مرحبا
الأربعاء يناير 28, 2015 9:33 am من طرف mared althawra
» أغاني رائعة للفرقة اليسارية...فرقة الطريق العراقية
الثلاثاء يناير 27, 2015 6:22 am من طرف izzildin
» جميع البومات فرقة صابرين
الخميس سبتمبر 18, 2014 9:56 am من طرف ooyy
» ويستمرّ النضال في تـــونس..
السبت مارس 29, 2014 8:16 am من طرف mouyn
» حصريا اغنية وصية الشهيد من شريط الهدف 11
الأربعاء مارس 12, 2014 4:53 pm من طرف safwan zaben
» اغنية الزحف الجبهاوي للانطلاقة 42
السبت فبراير 15, 2014 12:06 pm من طرف mof2014
» حصري على ملتقى النسر الاحمر اغنية القدس تشرررع
السبت نوفمبر 30, 2013 12:40 am من طرف القدس عربية
» ******* ابو الفقر .. حداية نار موسى حافظ والجلماوي وكمان شاعر ثالث
الخميس أكتوبر 24, 2013 3:43 pm من طرف غالوب
» اشحن رصيدك مجانا
الإثنين سبتمبر 09, 2013 9:04 pm من طرف ندي فلسطين
» ماتفوت لهون
الجمعة يوليو 26, 2013 3:11 pm من طرف yayaba007