" ربما أتأخر كثيراً هذه المرة "
قال هذه الكلمات وحمل حقيبته ثم ودّع زوجته وابنه الصغير وخرج من البيت ، ذهب إلى أمه قبل أن يغادر المخيم ، قبّل يديها وأوصاها على إخوته .
أيام قليلة عاشها في غزة ، السجن الكبير ، مستوطنات لا زالت تجثم على أرضها كالورم السرطاني تمزقها من الشمال حتى الجنوب ، ركب السيارة متجهاً إلى " تل أبيب " ، أخذ معه هذه المرة همّ المخيم ، معاناة أهله وهمومهم ، نهارات يومهم لا تكاد تخلو من منع التجول ، أو مداهمات البيوت وجنازات الشهداء ، والاعتقالات والمواجهات ، ودخان إطارات السيارات المشتعلة هنا وهناك ، وشباب تتصدى بصدورها العارية لرصاص العدو وتقذفه بالحجارة ، وعشرات الملثمين يخرجون بين الفينة والأخرى لأداء مهمة بطولية أو لتوزيع بياناتهم وربما لكتابة شعارات على الجدران ، إذا لوّح أحدهم " ببلطته " وقف المخيم كله على قدم وساق ، حتى الأطفال غابت عن وجوههم ملامح البراءة والطفولة ، يحملون بنادق خشبية ، يقلدون بها الكبار .
وبعد أن انتصف النهار وصل رودي إلى تل أبيب ، الشمس محدقة في السماء ، ترسل أشعتها بسخاء ، المدينة أصابها الخمول كأنها غارقة في النوم ، تكاد تسمع شخير شوارعها الفارغة ، والبحر كالمغناطيس قد جذب الناس إليه مقدماً لهم وجبة رائعة من هوائه المنعش العليل .
استغرب عندما وجد ميرا تنتظره عند باب شقته .
- " ما الذي أتى بك إلى هنا ؟ " سأل مندهشاً .
- " أنتظر مجيئك كل يوم ، لقد اشتقت إليك " أجابته وهي تنجذب إليه تريد أن تختفي بين ضلوعه لتبكي وتبكي عله يغفر لها خطيئتها .
- " ولكني أكرهك ، انصرفي من هنا ولا تأت لشقتي مرة أخرى " رد بانفعال وقسوة .
حاولت جاهدة أن تمحو من ذاكرته تلك الكلمات القاسية ، لكنه رفضها بشدة وصفع الباب في وجهها ودخل شقته غير مكترث بمجيئها .
وفي اليوم التالي تحدث رودي إلى فيلكس ، وطلب منه أن يستبدلها بعاملة أخرى فوافق بسرعة وراح يبحث عن عاملة أخرى بنفس كفاءتها .
عادت إلى شقته رغم كل ما حدث ، وطلبت منه أن يسمعها للمرة الأخيرة ، ووعدته بأن لا تعترض طريقه مرة أخرى ، فوافق على طلبها وسمح لها بالدخول .
- " هل تقبل دعوتي لنقضي بعض الوقت قرب الشاطئ ؟ ، فالبحر اليوم في غاية الروعة " طلبت منه على استحياء .
- " لا بأس ، لكنني لن أجلس هناك طويلاً " أجابها بقليل من القبول .
بعد دقائق وصلا إلى الشاطئ ، كان ذلك أول أيام أيار ، الشاطئ يعج بالزائرين ، البحر وهدير أمواجه الناعسة وصيحات المستجمين وأصوات الموسيقى المنبعثة من المقاهي المحاذية للشاطئ جميعها كان يدعو الجميع للمكوث طويلاً هناك ما عدا رودي الذي انتابته قشعريرة غريبة بمجرد أن رأى ذلك المشهد ، تذكر غزة وأهلها القابعين تحت منع التجول ، وعلى مقربة من الشاطئ جلسا تحت مظلة كبيرة يراقبان الناس العراة المندفعين نحو البحر .
انتظر حديثها لكنها لم تتكلم بعد . . طائرة ضخمة حلّقت لبعض الوقت فوق الشاطئ ثم انصرفت ، بدأ الأطفال يلوّحون لها بملابسهم ابتهاجاً بقدومها ، ازداد الشاطئ صخباً وضجيجاً ، لكن رودي كان هناك ، حيث كانت الطائرات تطلق نيرانها الثقيلة بعشوائية على المواطنين الأبرياء ، والأطفال يصرخون من شدة الفزع والرعب .
التفت إليها قاطعاً حاجز الصمت " هيا قولي ما عندك بسرعة ، فأنا لا أطيق صمتك ، ولا أطيق وجودي هنا " .
- " أنا أحبك ، ولا أعرف من أين أبدأ لك ، أحبك هل تفهم ؟ ، بأي كتاب أقسم لك بأني أحبك ؟، ما قلته لك كان رغماً عني "
كان ينظر إلى البحر ، أمواجه تنتهي عند الشاطئ فتبدأ أمواج أخرى رحلتها من جديد ، ظل يتابع هذا المشهد المتكرر رافضاً الاستماع إلى حديثها .
- " لقد تربيت على حقدي على العرب ، هذا جزء من ثقافتنا نحن اليهود ، لقد تعلمنا في المدارس أن العربي الطيب هو العربي الميت ، علمونا أن الصفات البذيئة تجتمع كلها في شخصية العربي ، حتى أننا عندما نشتم أحداً نقول له يا عربي . . العربي قاتل وقاطع طريق ومتوحش ، له ذيل كالحيوان . . كالأفعى بل أسوأ ، ولكني عندما عرفتك وجدتك إنساناً أميناً مخلصاً في عمله ، طيباً ، حنوناً ، رجلاً بمعنى الكلمة ، لذلك أحببتك وأحببت لأجلك كل العرب ، أنا لا أريد منك أي شيء الآن ، ولا أستجديك كي تحبني ، لكنني جئت هنا ليرتاح ضميري " استمرت في حديثها ولم تقطع الأمل في استمالة قلبه مرة أخرى .
وعندما اقتربت الشمس أن تنحني في حضن البحر استأذن منها ليترك الشاطئ ، ثم افترقا ليعود كل منهما إلى بيته .
لم ينم ليلتها ، بقي يفكر فيها حتى الصباح ، ذهب إلى المصنع مبكراً ولكنها لم تأت ، سأل عنها صديقتها فقالت له بأنها ستستقيل من عملها ، جن جنونه وظل مرتبكاً طوال اليوم ، وفي المساء ذهب إليها فوجدها غارقة بين كئوس الخمر ، أفاقت من هول دهشتها وارتمت في حضنه وظلت تبكي حتى الصباح .
كؤوس الخمر وليال أيار الطائشة صنعت منه عاشقاً شرهاً فتعلّق بها كثيراً ، وتعوّد على مجيئها إلى شقته كل ليلة لتقضي معه ليلة أحلى من سابقاتها كما كانت تعِده دائماً ، وقبل أن يقتحم الفجر بوابات الليل كانت تغادر شقته خوفاً من أن يراها أحد .
انتهت الحلقة الثالثة
أبو فريد
قال هذه الكلمات وحمل حقيبته ثم ودّع زوجته وابنه الصغير وخرج من البيت ، ذهب إلى أمه قبل أن يغادر المخيم ، قبّل يديها وأوصاها على إخوته .
أيام قليلة عاشها في غزة ، السجن الكبير ، مستوطنات لا زالت تجثم على أرضها كالورم السرطاني تمزقها من الشمال حتى الجنوب ، ركب السيارة متجهاً إلى " تل أبيب " ، أخذ معه هذه المرة همّ المخيم ، معاناة أهله وهمومهم ، نهارات يومهم لا تكاد تخلو من منع التجول ، أو مداهمات البيوت وجنازات الشهداء ، والاعتقالات والمواجهات ، ودخان إطارات السيارات المشتعلة هنا وهناك ، وشباب تتصدى بصدورها العارية لرصاص العدو وتقذفه بالحجارة ، وعشرات الملثمين يخرجون بين الفينة والأخرى لأداء مهمة بطولية أو لتوزيع بياناتهم وربما لكتابة شعارات على الجدران ، إذا لوّح أحدهم " ببلطته " وقف المخيم كله على قدم وساق ، حتى الأطفال غابت عن وجوههم ملامح البراءة والطفولة ، يحملون بنادق خشبية ، يقلدون بها الكبار .
وبعد أن انتصف النهار وصل رودي إلى تل أبيب ، الشمس محدقة في السماء ، ترسل أشعتها بسخاء ، المدينة أصابها الخمول كأنها غارقة في النوم ، تكاد تسمع شخير شوارعها الفارغة ، والبحر كالمغناطيس قد جذب الناس إليه مقدماً لهم وجبة رائعة من هوائه المنعش العليل .
استغرب عندما وجد ميرا تنتظره عند باب شقته .
- " ما الذي أتى بك إلى هنا ؟ " سأل مندهشاً .
- " أنتظر مجيئك كل يوم ، لقد اشتقت إليك " أجابته وهي تنجذب إليه تريد أن تختفي بين ضلوعه لتبكي وتبكي عله يغفر لها خطيئتها .
- " ولكني أكرهك ، انصرفي من هنا ولا تأت لشقتي مرة أخرى " رد بانفعال وقسوة .
حاولت جاهدة أن تمحو من ذاكرته تلك الكلمات القاسية ، لكنه رفضها بشدة وصفع الباب في وجهها ودخل شقته غير مكترث بمجيئها .
وفي اليوم التالي تحدث رودي إلى فيلكس ، وطلب منه أن يستبدلها بعاملة أخرى فوافق بسرعة وراح يبحث عن عاملة أخرى بنفس كفاءتها .
عادت إلى شقته رغم كل ما حدث ، وطلبت منه أن يسمعها للمرة الأخيرة ، ووعدته بأن لا تعترض طريقه مرة أخرى ، فوافق على طلبها وسمح لها بالدخول .
- " هل تقبل دعوتي لنقضي بعض الوقت قرب الشاطئ ؟ ، فالبحر اليوم في غاية الروعة " طلبت منه على استحياء .
- " لا بأس ، لكنني لن أجلس هناك طويلاً " أجابها بقليل من القبول .
بعد دقائق وصلا إلى الشاطئ ، كان ذلك أول أيام أيار ، الشاطئ يعج بالزائرين ، البحر وهدير أمواجه الناعسة وصيحات المستجمين وأصوات الموسيقى المنبعثة من المقاهي المحاذية للشاطئ جميعها كان يدعو الجميع للمكوث طويلاً هناك ما عدا رودي الذي انتابته قشعريرة غريبة بمجرد أن رأى ذلك المشهد ، تذكر غزة وأهلها القابعين تحت منع التجول ، وعلى مقربة من الشاطئ جلسا تحت مظلة كبيرة يراقبان الناس العراة المندفعين نحو البحر .
انتظر حديثها لكنها لم تتكلم بعد . . طائرة ضخمة حلّقت لبعض الوقت فوق الشاطئ ثم انصرفت ، بدأ الأطفال يلوّحون لها بملابسهم ابتهاجاً بقدومها ، ازداد الشاطئ صخباً وضجيجاً ، لكن رودي كان هناك ، حيث كانت الطائرات تطلق نيرانها الثقيلة بعشوائية على المواطنين الأبرياء ، والأطفال يصرخون من شدة الفزع والرعب .
التفت إليها قاطعاً حاجز الصمت " هيا قولي ما عندك بسرعة ، فأنا لا أطيق صمتك ، ولا أطيق وجودي هنا " .
- " أنا أحبك ، ولا أعرف من أين أبدأ لك ، أحبك هل تفهم ؟ ، بأي كتاب أقسم لك بأني أحبك ؟، ما قلته لك كان رغماً عني "
كان ينظر إلى البحر ، أمواجه تنتهي عند الشاطئ فتبدأ أمواج أخرى رحلتها من جديد ، ظل يتابع هذا المشهد المتكرر رافضاً الاستماع إلى حديثها .
- " لقد تربيت على حقدي على العرب ، هذا جزء من ثقافتنا نحن اليهود ، لقد تعلمنا في المدارس أن العربي الطيب هو العربي الميت ، علمونا أن الصفات البذيئة تجتمع كلها في شخصية العربي ، حتى أننا عندما نشتم أحداً نقول له يا عربي . . العربي قاتل وقاطع طريق ومتوحش ، له ذيل كالحيوان . . كالأفعى بل أسوأ ، ولكني عندما عرفتك وجدتك إنساناً أميناً مخلصاً في عمله ، طيباً ، حنوناً ، رجلاً بمعنى الكلمة ، لذلك أحببتك وأحببت لأجلك كل العرب ، أنا لا أريد منك أي شيء الآن ، ولا أستجديك كي تحبني ، لكنني جئت هنا ليرتاح ضميري " استمرت في حديثها ولم تقطع الأمل في استمالة قلبه مرة أخرى .
وعندما اقتربت الشمس أن تنحني في حضن البحر استأذن منها ليترك الشاطئ ، ثم افترقا ليعود كل منهما إلى بيته .
لم ينم ليلتها ، بقي يفكر فيها حتى الصباح ، ذهب إلى المصنع مبكراً ولكنها لم تأت ، سأل عنها صديقتها فقالت له بأنها ستستقيل من عملها ، جن جنونه وظل مرتبكاً طوال اليوم ، وفي المساء ذهب إليها فوجدها غارقة بين كئوس الخمر ، أفاقت من هول دهشتها وارتمت في حضنه وظلت تبكي حتى الصباح .
كؤوس الخمر وليال أيار الطائشة صنعت منه عاشقاً شرهاً فتعلّق بها كثيراً ، وتعوّد على مجيئها إلى شقته كل ليلة لتقضي معه ليلة أحلى من سابقاتها كما كانت تعِده دائماً ، وقبل أن يقتحم الفجر بوابات الليل كانت تغادر شقته خوفاً من أن يراها أحد .
انتهت الحلقة الثالثة
أبو فريد
عدل سابقا من قبل أبو فريد في الإثنين أكتوبر 20, 2008 1:01 pm عدل 2 مرات (السبب : تعديل صياغة)
الثلاثاء فبراير 28, 2023 12:27 am من طرف samarahmad78
» خسارة عليك يا منتدى النسر الاحمر
الأحد فبراير 26, 2023 1:48 am من طرف راهب الفكر
» أقوال جورج حبش
الأحد فبراير 26, 2023 1:47 am من طرف راهب الفكر
» اليسار التونسي الآن وهنا
الثلاثاء مارس 02, 2021 11:20 am من طرف mouyn
» أغنية يا أسرانا يا بواسل (جديد الشعبية)
الإثنين ديسمبر 10, 2018 12:52 am من طرف Iyad
» أغنية يا أسرانا يا بواسل (جديد الشعبية)
السبت ديسمبر 08, 2018 6:14 pm من طرف Iyad
» فش غلّك واحكي .^ اكثر ظاهرة او عادة بتتمنى زوالها من مجتمعنا ^.
الخميس فبراير 22, 2018 5:00 pm من طرف زهر اللوز
» اربع كلمات تكشف عن حالتك
الخميس فبراير 22, 2018 4:58 pm من طرف زهر اللوز
» حصريا اغنية غسان كنفانى اسمو على الريشة
الجمعة أغسطس 21, 2015 2:33 pm من طرف ابو الحكيم 1
» احدث اغنية للجبهة:هيلا هيلا ديمقراطية جبهة قوية 200% تربي رجال
الخميس فبراير 26, 2015 12:56 pm من طرف ابن الديمقراطية
» مرحبا
الأربعاء يناير 28, 2015 9:33 am من طرف mared althawra
» أغاني رائعة للفرقة اليسارية...فرقة الطريق العراقية
الثلاثاء يناير 27, 2015 6:22 am من طرف izzildin
» جميع البومات فرقة صابرين
الخميس سبتمبر 18, 2014 9:56 am من طرف ooyy
» ويستمرّ النضال في تـــونس..
السبت مارس 29, 2014 8:16 am من طرف mouyn
» حصريا اغنية وصية الشهيد من شريط الهدف 11
الأربعاء مارس 12, 2014 4:53 pm من طرف safwan zaben
» اغنية الزحف الجبهاوي للانطلاقة 42
السبت فبراير 15, 2014 12:06 pm من طرف mof2014
» حصري على ملتقى النسر الاحمر اغنية القدس تشرررع
السبت نوفمبر 30, 2013 12:40 am من طرف القدس عربية
» ******* ابو الفقر .. حداية نار موسى حافظ والجلماوي وكمان شاعر ثالث
الخميس أكتوبر 24, 2013 3:43 pm من طرف غالوب
» اشحن رصيدك مجانا
الإثنين سبتمبر 09, 2013 9:04 pm من طرف ندي فلسطين
» ماتفوت لهون
الجمعة يوليو 26, 2013 3:11 pm من طرف yayaba007