يوم في حياة ميت...
الصوت في اذني..يخترق جدران الصمت المحيطة بي..صمت حزين يزداد احيانا فأحسه يملأ الكون..رغم الحركة العارمة التي يعج بها المكان..سيارات..بشر..بعض الحيوانات تنتقل من هنا لهناك لو تهرب من شيء ما.
صوت صراخ عال اجتاح أذني..صراخ ممتليء بالدموع والنحيب..
-الى اين ترحل؟؟
-أترحل وتتركني أيها الغالي على قلبي..
هذا الصوت ليس غريبا عني..أعرفه جيدا..تربيت وعشت معه.
صوت نسائي تجتمع فيه كل جماليات الكون ..طيوره..أشجاره..غاباته..سمائه..دافيء جدا هذا الصوت..
اه..امي ..عرفتها..امي تبكي دائما..في الفرح..في الحزن..حتى عندما تضحك يتهيأ لك أنها تبكي..وانها بقدر ابتسامة شفتيها تنهال دموع عينيها.
لكن لماذا تبكي؟؟
اه.. لاني راحل..
تعلمنا دائما ان رحلتي هذه..هي نقطة لقاء بين مرحلتين..فراق في نهاية الالى..ولقاء في الثانية.
لكن ما دمنا سنلتقي..فلم البكاء الحاد هذا؟؟
ربما سيصل كل منا لبلد اخر..ربما..
هذا طبع كل الرحيل..فبم تختلف رحلتي اذا؟؟
لا زلت لا اعلم.
وما هي وسيلة النقل الغريبة هذه؟؟
قد أكون رأيتها من قبل..لا ادري..
أرى الناس من فوق..ليست فوقية المتكبر..انما لاني انظر من مكان مرتفع..سكون..صمت..يلف المكان..
يخترق الصمت مرة اخرى من صحوة صراخ امي..
كم هي حنون تلك المرأة..كم هي مسكيتة..
ظلمها القدر في كل شيء..وازداد الظلم بوجودي معها..لم افدها او اقدم لها غير العناء..
حمل..تعب..ولادة..
شقاوة الطفولة..خوفها الدائم علي..
أردت دائما لها الخير..وككل الاظفال يحبون امهاتهم..لكن لم اقدم شيء..فقط اخذت.
يواسيني اني احببتها..لكني على يقين ان حبي لها نقطة بمحيط حبها لي.
أريد البكاء..احاول..لكني لا استطيع..لا اقوى على ذلك..لا اقوى على فعل شيء.
حتى الدمع لم استطع ان اقدمه لك ايتها الام.
أحذ الجمع بالابتعاد عن البيت.
كانت هناك فتاة شابة..وقفت في داخل البيت..خلف الجميع..ملامحها اعرفها..اه انها اختي..الدموع تسيل من عينيها..ليست بالكثيرة ولا القليلة..كانت صامتة..وكانها اصيبت بصدمة اسكتت اللسان وفتحت باب عبور الدمع الى الخدين.
وما زلت اسال نفسي..لماذا كل هذا البكاء؟؟..ماذا حدث؟؟.
ثلاثة شبان..اصغرهم في الثامنة عشر كانو يتوسطون البيت والجمع داخله..الكبيران لم يبكيا مثل امي واختي..ربما كان الخجل..كثرا ما كنت اسال نفسي لماذا يخجل الناس من دموعهم؟؟
دائما كنت اسمع الناس يقولون"الدمع مش عيب"..لكنهم كانو يخجلون منها..كأنهم من بلاد من يقولون ما لا يفعلون..هل بلادنا هي هكذا؟؟.
بالنسبة لي كان الدمع ليس عيبا..المهم ان تعرف متى واين وامام من تبكي..واياك ان تبكي امام عدوك..لاتجعله يضحك لبكائك.
مع اني اعتزلت البكاء على نفسي منذ كنت في العاشرة..
يوم تم فصل الكهرباء عن بيتنا المكون من غرفة واحدة بناء قديم..كنت قبلها دائم البكاء على كل ما يصيبني..الجوع..الفقر الذي منعني ولسنين من شراء ملابس جديدة لاية سنة دراسية جديدة كباقي الاطفال فأبكي..
الخلافات اليومية بين امي وابي بسبب وضعنا السيء أراها فابكي..
صراخ امي المقهور يوميا اسمعه فأبكي..
ترك امي للبيت لعدة مرات وذهابها لبيت جدي لامي وبقائي في البيت وحيدا..كنت ابكي..
لازلت اذكر ذلك اليوم،كنت في الصف الثالث الابتدائي وكان الشتاء منتشيا بقوته وجماله..استلمنا الشهادات المدرسية..كنت الثالث على الصف..ذهبت مسرعا للبيت..كنت فرحا جدا..اردت ان افرح امي..لم اجدها في البيت..لشدة فرحي ولهفي لافرح امي نسيت انها تركت البيت قبل يومين..صمت وانا الطفل المعروف بعدم هدوئه وفوضاه المطلقة..ذهبت لعمة لي كانت تسكن وحدها..ابتسمت لي واعطتني شيقل..
كان يوما ممطرا.
الظلم الاجتماعي..وهذا يحمل مجالات عدة لا مجال لذكرها..
لكن ظلم ذوي القربى اشد مضاضة على النفس..اقواها واكبرها جرحا واكثرها ايلاما.
اتذكر وبنقش محفور فوق جدران ذاكرتي كيف كنت اعمل يوميا من الصباح وحتى المساء عملا شاقا في ارض عمي مقابل شيقل واحد واحيانا اقل من شيقل..ولازلت اذكر ذات يوم عندما كنا في بيت عمي وكنت بثيابي الممزقة..كان عمي يلاعب ابن صهره(اخو زوجته) كان طفلا صغيرا وكان يلاعبه بورقة الخمسين شيقل..امسكها الطفل ولم يفلتها فاعطاه عمي اياها..
ولم ينتبه الى يساره ليراني بثيابي الممزقة بعد يوم عمل شاق..لم يخطر بباله ان يعطيني مثلها او نصفها او حتى عشرة شواقل منها..
اعطاها لطفل بثياب جديدة لا يحتاج لها..ولم ينتبه لطفل يعمل عملا شاقا عنده بثياب ممزقة مقابل شيقل واحد..
كم كان ذاك الطفل بغنى عن الخمسين شيقل وكم كنت بحاجة لها..
كم ساخر انت ايها القدر.
لا زلت اتذكر ما جرى واتذكر امورا اخرى يحترق العقل اذا فكر فيها.
اعتزلت البكاء على نفسي واهديت دموعي للاخرين.
الفتى ابن الثامنة عشر..كان يبكي..بكاؤه كان حارا صامتا..لكنه صمت له صوت مدوي يضرب الجدران..يريد اختراق المكان والزمان..اصيب الصمت بالجنون..ان تجن يعني ان تخترق معايير وحدود الزمان والمكان..هكذا كان صمت الفتى.
لكن مهلا..اعرف هذه الوجوه الثلاثة..انهم اخوتي..اه اخوتي..اذكرهم جيدا..كيف كنا نلعب المصارعه في البيت..كيف كنا بعد الانتهاء من مشاهدة كل حلقة من حلقات مسلسل الرسوم المتحركة"الكابتن رابح" او "الهداف"..نخرج الى ساحة البيت الصغيرة ونلعب كرة القدم..ونحاول تقليدهم وتقليد ضربهم للكرة.
صرخ احد اخوتي كفو عن البكاء.
اخذ الجمع بالابتعاد عن البيت..امي لحقت بهم..امسكتها النسوة المتجمعات في البيت..انهارت قواها وقد تكون اصيبت بالاغماء.
اخذ الصمت يعود الي الجمع كلما ابتعدنا عن البيت اكثر.
ساد الصمت تمام اثناء المسير.
رويدا رويدا بدات معالم الجمع السائر بي تتضح اكثر وصارت ملامح الاشخاص تتحدد بشكل جعل بمقدوري تشخيص السائرين ممن اعرفهم طبعا.
مجموعة من الشباب تسير بالقرب مني،لم يفترقو منذ بداية رحلتي..كانو يبكون خلال المسير بصمت وان علا صوت النحيب احيانا..كان نحيبا كنحيب الاطفال..يحضنون بعضهم لان رحلتي هذه بنظرهم فاجعة..احدهم رايته يبكي مع امي ويقبلها بحزن عنيف..كان قد قبلها يوم تخرجي من الجامعة..اختلفت المواقف وبقيت وسيلة التعبير واحدة.
لكن انهائي الجامعة ورحلتي هذه يجمعهما خيط واحد..الوصول لنهاية مرحلة..
لماذ؟؟..لا ادري.
ما زال الشباب يسيرون بقربي مجتمعين..ملامحهم واضحة انهم اصدقائي.
احيانا لا نحتاج لحدث كبير للحضور في ذاكرة الاخرين او جدول اعمالهم ومواعيدهم اليومي..
واحيانا نحتاج لصاعقة..ربما كنت من النوع الاخر..انا من النوع الاخر.
وعلى شباك بعيد في بلدة بعيدة وقفت فتاة بقي لها ايام لتبلغ الثانية والعشرين..وقفت تبكي وتنظر جهة الشمال علها تراني..ترى طيفا بعيدا يسافر في رحلته الاخيرة..تسترجع في ذاكرتها الصوت والكلمات..تسترجع شظايا الشكل العالق في المخيلة من صور مخزنة على جهاز الكمبيوتر الخاص بها كنت قد ارسلتها لها لتراني وتعرف الشكل لهذا الشخص الذي كان من المفترض انها عرفت شخصيته قبل شكله..اراها الان على ذلك الشباك البعيد..اراها كرسم رسمته في خيالي..اكثر مما هي صورة رايتها..فالصورة الوحيدة التي ارسلتها لي لم تكن بذاك الوضوح..وكل محاولات اللقاء ووعوده ذهبت هباء..هل كنت اللاشيء لكي لا تكون رؤيتي مهمة؟؟..ام كنت الشيء الذي بوجوده او عدم وجوده تكتمل الرؤيا..او برؤيته وعدمها يكتمل الوجود..كل هذه الاحتمالات من الجميع والى الجميع تقود الى جواب واحد هو "مش مهم".
تناولت الفتاة الكثير من حبوب الابتلجين لشعورها بتوترعصبي شديد والم حاد في الراس وقد تنهار او تصاب بحالة تشنج فيذهب بها اهلها الى المستشفى.
كم يحزنني ان اراها بهذه الحال وكم يحزنني تناولها لهذا الدواء والذي طلبت منها عدم تناوله ووعدتني بذلك.
اجتمع الجميع على الحزن من بيتنا الى اماكن اخرى.
رحل قبل اوانه..عبارة سمعتها كثيرا..دائما الرحيل لا يأتي بالنسبة للناس في الوقت المناسب فهو اما قبل الاوان و اما بعد الاوان..لماذا؟؟.
وصل الجمع لمكان ما وتوقف وبدات بالنزول الى اسفل..صرت بنفس مستوى الاخرين..ثم صرت تحتهم وصلت لنهاية الرحلة.
وضعت في حفرة هي المحطة التي وصلت اليها..اخذو يهيلون التراب علي..التراب هو الابواب التي تغلق عليك في هذه الرحلة..تفصل بينك وبين الاخرين..لحظة تفصل بين مرحلتين كما تعلمنا.
انتهى الناس من وضع التراب..بدأ شخص من الحضور بالكلام والوعظ..وانفض الناس..الا من اخوتي واصدقائي..وقفو قليلا طويلا ثم رحلو .
وبعد..
ستبكي امي..وتصاب بالاغماء وتحلم بي..سيكون ذلك كثيرا بالايام الاولى ثم يبدأ بالتناقص..ستزوج اخوتي واختي..وتتذكرني في ذلك اليوم وتبكي ثم تعود للابتسام.
اختي واخوتي..
سأكون حاضرا معهم ثم ساصبح ذكرى يخف حضورها مع الزمن.
أصدقائي..
سيبقى للصاعقة مفعولها ثم اصبح صورة تعلق في غرفهم..خصوصا الصور المشتركة..وقد تعلق لي صورة في عرس أي منهم.
الفتاة..
ستبكي..سيزداد عدد حبات الابتلجين الذي ستتناوله مع انها وعدتني بعدم تناوله..وقد يعود لها التشنج ليلا..ثم وبعد شهور ستختفي هذه الاعراض تدريجيا..ستلتفت لتربية اولادها مما ينسيها تدريجيا رحيلي..خصوصا اذا وجد شخص يسد الثغرة التي من المفترض ان غيابي اوجدها..واحيانا وجود الثغرات يجلنا نستدعي اشخاصا ليسدوها.
بعد زمن ربما ليس بالطويل ساصير مجرد ذكرى لمعلم مر بحياتها وحياة أي شخص اخر..
خصوصا ان كان هذا المعلم ممن يسهل نسيانهم..
هذه صفة في بعض البشر والاشياء.
صفة تلازمني دائما.
فانا لا اتعب الاخرين كي ينسوني..ولا اخذ منهم جهدا في ذلك..فرحيلي وان كان مؤلما لن يكون كوشم على الجلد لا يزول.
الصوت في اذني..يخترق جدران الصمت المحيطة بي..صمت حزين يزداد احيانا فأحسه يملأ الكون..رغم الحركة العارمة التي يعج بها المكان..سيارات..بشر..بعض الحيوانات تنتقل من هنا لهناك لو تهرب من شيء ما.
صوت صراخ عال اجتاح أذني..صراخ ممتليء بالدموع والنحيب..
-الى اين ترحل؟؟
-أترحل وتتركني أيها الغالي على قلبي..
هذا الصوت ليس غريبا عني..أعرفه جيدا..تربيت وعشت معه.
صوت نسائي تجتمع فيه كل جماليات الكون ..طيوره..أشجاره..غاباته..سمائه..دافيء جدا هذا الصوت..
اه..امي ..عرفتها..امي تبكي دائما..في الفرح..في الحزن..حتى عندما تضحك يتهيأ لك أنها تبكي..وانها بقدر ابتسامة شفتيها تنهال دموع عينيها.
لكن لماذا تبكي؟؟
اه.. لاني راحل..
تعلمنا دائما ان رحلتي هذه..هي نقطة لقاء بين مرحلتين..فراق في نهاية الالى..ولقاء في الثانية.
لكن ما دمنا سنلتقي..فلم البكاء الحاد هذا؟؟
ربما سيصل كل منا لبلد اخر..ربما..
هذا طبع كل الرحيل..فبم تختلف رحلتي اذا؟؟
لا زلت لا اعلم.
وما هي وسيلة النقل الغريبة هذه؟؟
قد أكون رأيتها من قبل..لا ادري..
أرى الناس من فوق..ليست فوقية المتكبر..انما لاني انظر من مكان مرتفع..سكون..صمت..يلف المكان..
يخترق الصمت مرة اخرى من صحوة صراخ امي..
كم هي حنون تلك المرأة..كم هي مسكيتة..
ظلمها القدر في كل شيء..وازداد الظلم بوجودي معها..لم افدها او اقدم لها غير العناء..
حمل..تعب..ولادة..
شقاوة الطفولة..خوفها الدائم علي..
أردت دائما لها الخير..وككل الاظفال يحبون امهاتهم..لكن لم اقدم شيء..فقط اخذت.
يواسيني اني احببتها..لكني على يقين ان حبي لها نقطة بمحيط حبها لي.
أريد البكاء..احاول..لكني لا استطيع..لا اقوى على ذلك..لا اقوى على فعل شيء.
حتى الدمع لم استطع ان اقدمه لك ايتها الام.
أحذ الجمع بالابتعاد عن البيت.
كانت هناك فتاة شابة..وقفت في داخل البيت..خلف الجميع..ملامحها اعرفها..اه انها اختي..الدموع تسيل من عينيها..ليست بالكثيرة ولا القليلة..كانت صامتة..وكانها اصيبت بصدمة اسكتت اللسان وفتحت باب عبور الدمع الى الخدين.
وما زلت اسال نفسي..لماذا كل هذا البكاء؟؟..ماذا حدث؟؟.
ثلاثة شبان..اصغرهم في الثامنة عشر كانو يتوسطون البيت والجمع داخله..الكبيران لم يبكيا مثل امي واختي..ربما كان الخجل..كثرا ما كنت اسال نفسي لماذا يخجل الناس من دموعهم؟؟
دائما كنت اسمع الناس يقولون"الدمع مش عيب"..لكنهم كانو يخجلون منها..كأنهم من بلاد من يقولون ما لا يفعلون..هل بلادنا هي هكذا؟؟.
بالنسبة لي كان الدمع ليس عيبا..المهم ان تعرف متى واين وامام من تبكي..واياك ان تبكي امام عدوك..لاتجعله يضحك لبكائك.
مع اني اعتزلت البكاء على نفسي منذ كنت في العاشرة..
يوم تم فصل الكهرباء عن بيتنا المكون من غرفة واحدة بناء قديم..كنت قبلها دائم البكاء على كل ما يصيبني..الجوع..الفقر الذي منعني ولسنين من شراء ملابس جديدة لاية سنة دراسية جديدة كباقي الاطفال فأبكي..
الخلافات اليومية بين امي وابي بسبب وضعنا السيء أراها فابكي..
صراخ امي المقهور يوميا اسمعه فأبكي..
ترك امي للبيت لعدة مرات وذهابها لبيت جدي لامي وبقائي في البيت وحيدا..كنت ابكي..
لازلت اذكر ذلك اليوم،كنت في الصف الثالث الابتدائي وكان الشتاء منتشيا بقوته وجماله..استلمنا الشهادات المدرسية..كنت الثالث على الصف..ذهبت مسرعا للبيت..كنت فرحا جدا..اردت ان افرح امي..لم اجدها في البيت..لشدة فرحي ولهفي لافرح امي نسيت انها تركت البيت قبل يومين..صمت وانا الطفل المعروف بعدم هدوئه وفوضاه المطلقة..ذهبت لعمة لي كانت تسكن وحدها..ابتسمت لي واعطتني شيقل..
كان يوما ممطرا.
الظلم الاجتماعي..وهذا يحمل مجالات عدة لا مجال لذكرها..
لكن ظلم ذوي القربى اشد مضاضة على النفس..اقواها واكبرها جرحا واكثرها ايلاما.
اتذكر وبنقش محفور فوق جدران ذاكرتي كيف كنت اعمل يوميا من الصباح وحتى المساء عملا شاقا في ارض عمي مقابل شيقل واحد واحيانا اقل من شيقل..ولازلت اذكر ذات يوم عندما كنا في بيت عمي وكنت بثيابي الممزقة..كان عمي يلاعب ابن صهره(اخو زوجته) كان طفلا صغيرا وكان يلاعبه بورقة الخمسين شيقل..امسكها الطفل ولم يفلتها فاعطاه عمي اياها..
ولم ينتبه الى يساره ليراني بثيابي الممزقة بعد يوم عمل شاق..لم يخطر بباله ان يعطيني مثلها او نصفها او حتى عشرة شواقل منها..
اعطاها لطفل بثياب جديدة لا يحتاج لها..ولم ينتبه لطفل يعمل عملا شاقا عنده بثياب ممزقة مقابل شيقل واحد..
كم كان ذاك الطفل بغنى عن الخمسين شيقل وكم كنت بحاجة لها..
كم ساخر انت ايها القدر.
لا زلت اتذكر ما جرى واتذكر امورا اخرى يحترق العقل اذا فكر فيها.
اعتزلت البكاء على نفسي واهديت دموعي للاخرين.
الفتى ابن الثامنة عشر..كان يبكي..بكاؤه كان حارا صامتا..لكنه صمت له صوت مدوي يضرب الجدران..يريد اختراق المكان والزمان..اصيب الصمت بالجنون..ان تجن يعني ان تخترق معايير وحدود الزمان والمكان..هكذا كان صمت الفتى.
لكن مهلا..اعرف هذه الوجوه الثلاثة..انهم اخوتي..اه اخوتي..اذكرهم جيدا..كيف كنا نلعب المصارعه في البيت..كيف كنا بعد الانتهاء من مشاهدة كل حلقة من حلقات مسلسل الرسوم المتحركة"الكابتن رابح" او "الهداف"..نخرج الى ساحة البيت الصغيرة ونلعب كرة القدم..ونحاول تقليدهم وتقليد ضربهم للكرة.
صرخ احد اخوتي كفو عن البكاء.
اخذ الجمع بالابتعاد عن البيت..امي لحقت بهم..امسكتها النسوة المتجمعات في البيت..انهارت قواها وقد تكون اصيبت بالاغماء.
اخذ الصمت يعود الي الجمع كلما ابتعدنا عن البيت اكثر.
ساد الصمت تمام اثناء المسير.
رويدا رويدا بدات معالم الجمع السائر بي تتضح اكثر وصارت ملامح الاشخاص تتحدد بشكل جعل بمقدوري تشخيص السائرين ممن اعرفهم طبعا.
مجموعة من الشباب تسير بالقرب مني،لم يفترقو منذ بداية رحلتي..كانو يبكون خلال المسير بصمت وان علا صوت النحيب احيانا..كان نحيبا كنحيب الاطفال..يحضنون بعضهم لان رحلتي هذه بنظرهم فاجعة..احدهم رايته يبكي مع امي ويقبلها بحزن عنيف..كان قد قبلها يوم تخرجي من الجامعة..اختلفت المواقف وبقيت وسيلة التعبير واحدة.
لكن انهائي الجامعة ورحلتي هذه يجمعهما خيط واحد..الوصول لنهاية مرحلة..
لماذ؟؟..لا ادري.
ما زال الشباب يسيرون بقربي مجتمعين..ملامحهم واضحة انهم اصدقائي.
احيانا لا نحتاج لحدث كبير للحضور في ذاكرة الاخرين او جدول اعمالهم ومواعيدهم اليومي..
واحيانا نحتاج لصاعقة..ربما كنت من النوع الاخر..انا من النوع الاخر.
وعلى شباك بعيد في بلدة بعيدة وقفت فتاة بقي لها ايام لتبلغ الثانية والعشرين..وقفت تبكي وتنظر جهة الشمال علها تراني..ترى طيفا بعيدا يسافر في رحلته الاخيرة..تسترجع في ذاكرتها الصوت والكلمات..تسترجع شظايا الشكل العالق في المخيلة من صور مخزنة على جهاز الكمبيوتر الخاص بها كنت قد ارسلتها لها لتراني وتعرف الشكل لهذا الشخص الذي كان من المفترض انها عرفت شخصيته قبل شكله..اراها الان على ذلك الشباك البعيد..اراها كرسم رسمته في خيالي..اكثر مما هي صورة رايتها..فالصورة الوحيدة التي ارسلتها لي لم تكن بذاك الوضوح..وكل محاولات اللقاء ووعوده ذهبت هباء..هل كنت اللاشيء لكي لا تكون رؤيتي مهمة؟؟..ام كنت الشيء الذي بوجوده او عدم وجوده تكتمل الرؤيا..او برؤيته وعدمها يكتمل الوجود..كل هذه الاحتمالات من الجميع والى الجميع تقود الى جواب واحد هو "مش مهم".
تناولت الفتاة الكثير من حبوب الابتلجين لشعورها بتوترعصبي شديد والم حاد في الراس وقد تنهار او تصاب بحالة تشنج فيذهب بها اهلها الى المستشفى.
كم يحزنني ان اراها بهذه الحال وكم يحزنني تناولها لهذا الدواء والذي طلبت منها عدم تناوله ووعدتني بذلك.
اجتمع الجميع على الحزن من بيتنا الى اماكن اخرى.
رحل قبل اوانه..عبارة سمعتها كثيرا..دائما الرحيل لا يأتي بالنسبة للناس في الوقت المناسب فهو اما قبل الاوان و اما بعد الاوان..لماذا؟؟.
وصل الجمع لمكان ما وتوقف وبدات بالنزول الى اسفل..صرت بنفس مستوى الاخرين..ثم صرت تحتهم وصلت لنهاية الرحلة.
وضعت في حفرة هي المحطة التي وصلت اليها..اخذو يهيلون التراب علي..التراب هو الابواب التي تغلق عليك في هذه الرحلة..تفصل بينك وبين الاخرين..لحظة تفصل بين مرحلتين كما تعلمنا.
انتهى الناس من وضع التراب..بدأ شخص من الحضور بالكلام والوعظ..وانفض الناس..الا من اخوتي واصدقائي..وقفو قليلا طويلا ثم رحلو .
وبعد..
ستبكي امي..وتصاب بالاغماء وتحلم بي..سيكون ذلك كثيرا بالايام الاولى ثم يبدأ بالتناقص..ستزوج اخوتي واختي..وتتذكرني في ذلك اليوم وتبكي ثم تعود للابتسام.
اختي واخوتي..
سأكون حاضرا معهم ثم ساصبح ذكرى يخف حضورها مع الزمن.
أصدقائي..
سيبقى للصاعقة مفعولها ثم اصبح صورة تعلق في غرفهم..خصوصا الصور المشتركة..وقد تعلق لي صورة في عرس أي منهم.
الفتاة..
ستبكي..سيزداد عدد حبات الابتلجين الذي ستتناوله مع انها وعدتني بعدم تناوله..وقد يعود لها التشنج ليلا..ثم وبعد شهور ستختفي هذه الاعراض تدريجيا..ستلتفت لتربية اولادها مما ينسيها تدريجيا رحيلي..خصوصا اذا وجد شخص يسد الثغرة التي من المفترض ان غيابي اوجدها..واحيانا وجود الثغرات يجلنا نستدعي اشخاصا ليسدوها.
بعد زمن ربما ليس بالطويل ساصير مجرد ذكرى لمعلم مر بحياتها وحياة أي شخص اخر..
خصوصا ان كان هذا المعلم ممن يسهل نسيانهم..
هذه صفة في بعض البشر والاشياء.
صفة تلازمني دائما.
فانا لا اتعب الاخرين كي ينسوني..ولا اخذ منهم جهدا في ذلك..فرحيلي وان كان مؤلما لن يكون كوشم على الجلد لا يزول.
الثلاثاء فبراير 28, 2023 12:27 am من طرف samarahmad78
» خسارة عليك يا منتدى النسر الاحمر
الأحد فبراير 26, 2023 1:48 am من طرف راهب الفكر
» أقوال جورج حبش
الأحد فبراير 26, 2023 1:47 am من طرف راهب الفكر
» اليسار التونسي الآن وهنا
الثلاثاء مارس 02, 2021 11:20 am من طرف mouyn
» أغنية يا أسرانا يا بواسل (جديد الشعبية)
الإثنين ديسمبر 10, 2018 12:52 am من طرف Iyad
» أغنية يا أسرانا يا بواسل (جديد الشعبية)
السبت ديسمبر 08, 2018 6:14 pm من طرف Iyad
» فش غلّك واحكي .^ اكثر ظاهرة او عادة بتتمنى زوالها من مجتمعنا ^.
الخميس فبراير 22, 2018 5:00 pm من طرف زهر اللوز
» اربع كلمات تكشف عن حالتك
الخميس فبراير 22, 2018 4:58 pm من طرف زهر اللوز
» حصريا اغنية غسان كنفانى اسمو على الريشة
الجمعة أغسطس 21, 2015 2:33 pm من طرف ابو الحكيم 1
» احدث اغنية للجبهة:هيلا هيلا ديمقراطية جبهة قوية 200% تربي رجال
الخميس فبراير 26, 2015 12:56 pm من طرف ابن الديمقراطية
» مرحبا
الأربعاء يناير 28, 2015 9:33 am من طرف mared althawra
» أغاني رائعة للفرقة اليسارية...فرقة الطريق العراقية
الثلاثاء يناير 27, 2015 6:22 am من طرف izzildin
» جميع البومات فرقة صابرين
الخميس سبتمبر 18, 2014 9:56 am من طرف ooyy
» ويستمرّ النضال في تـــونس..
السبت مارس 29, 2014 8:16 am من طرف mouyn
» حصريا اغنية وصية الشهيد من شريط الهدف 11
الأربعاء مارس 12, 2014 4:53 pm من طرف safwan zaben
» اغنية الزحف الجبهاوي للانطلاقة 42
السبت فبراير 15, 2014 12:06 pm من طرف mof2014
» حصري على ملتقى النسر الاحمر اغنية القدس تشرررع
السبت نوفمبر 30, 2013 12:40 am من طرف القدس عربية
» ******* ابو الفقر .. حداية نار موسى حافظ والجلماوي وكمان شاعر ثالث
الخميس أكتوبر 24, 2013 3:43 pm من طرف غالوب
» اشحن رصيدك مجانا
الإثنين سبتمبر 09, 2013 9:04 pm من طرف ندي فلسطين
» ماتفوت لهون
الجمعة يوليو 26, 2013 3:11 pm من طرف yayaba007