زمن الغدر والقهر(25) - بقلم : عابر سبيل
04/08/2008 11:16:36
... يمّا لا تتأخري.. الساعه عشره.. لا تنسي التبّوله.. كل الأمهات جايات.. أشرقت الطفولة على وجهها كالبراءه..
ألقت أوامرها, كما هو طبع أولاد هذا الزمان, ومشت بقفزات صغيرة, مثل جندب.. على جانبي رأسها خصلتا شعر مربوطتان بعناية, مثل قرنين صغيرين.. وليس على ظهرها تلك الشنطة التي طالما حملت خلال أيام العام زوادتها.. فاليوم آخر ايام السنة الدراسية, ومعلمة الروضة نظمت بهذه المناسبة, احتفالا متواضعًا, دعت اليه الامهات..
تبعتها أمها حتى سلم الحافله.. ربتت على كتفيها بحنان بالغ, واعتذرت بشبه تذمر, لان عليها العودة بسرعة لتجهيز بقيه الاولاد لمدارسهم..
من هناك.. خلف النافذة الموغلة في الكآبه.. تمنت لو تطلق العنان لصرخة مكتومه : أمهمومة انت ِ بالاولاد..؟ خذي نصف الذي ظل من عمري وأسعفيني بهَم ٍ مماثل.!
منذ ثلاث سنين, او أقل قليلا, تحرص على الجلوس عند ذات النافذة, ساعة انطلاق اطفال الحي الى مدارسهم.. تحدق فيهم وقت يجيئون مع الصبح, من جميع الجهات, لتجمعهم الساحة القريبة, كالجداول حين تتعانق عند المصب في النهر, ينتظرون السيارة التي تقلهم إلى المدرسه.. تسمع ضجيجهم الصباحي.. تراهم يلعبون ويتمازحون.. وأكثر من مرة, في أيام مضت, ركضت نحوهم كي تفض اشتباكًا اندلع بين بعضهم, دونما سبب واضح..!
تعرفهم كلهم.. ومن خلال هيئاتهم.. ترتيب ثيابهم وتسريح شعورهم, صارت تعرف أمهاتهم أكثر.. !
في بعض الأحايين كان خيالها, لحظة صفاء, أو جنون, يجنح بها لتتخيلهم كلهم ابناءها.. كالصائم يشتهي كل شيء مع أن القليل يكفيه..
وقت تزوجت, يوم كانت في الثامنة عشر, توقعت أن تصير أمّا خلال الاشهر الأولى.. هذا ما حدث فعلا لصديقاتها اللواتي تزوجن في نفس الفتره.. حملن.. وانجبن.. وصار لبعضهن أبناء أمسوا اليوم على عتبات الرجولة الاولى..
إلا هي...
مضى على زواجها اليوم تسعة عشر عامًا.. مع ذلك, ظلت رحمها, طيلة سنين, صحراء مجدبة, لم ينبت فيها حتى الشوك, كأرض سبخة..
ترددت وزوجها على الأطباء والعيادات, القريبة والبعيده.. على الفتّاحين وقارئات الحظ.. انفقا في سبيل ذلك أموال طائله.. لكن دون طائل..
ظلت نظرات جاراتها, على مدى الايام, رغم صمتها, تعيّرها بكل لغات العالم.. سياطًا تجلد, كل يوم, كبرياءها..
أولئك النسوة.. كأنهن خلقن بلا قلوب.. يبتسمن لها إن قابلنها, كما لو أنها لهن أخت شقيقه.. ومن وراء ظهرها يتهامسن عليها وعنها, على أشد ما يكون التشفي.. يستمرئن إمعان التحديق في عمق جرحها المعروض للفرجة..
ويغرسن في كرامتها ألسنة, ليست من عظام ولكنها قادرة على كسر أي عظم..
كانت هي تدرك أن هذا هو حال الناس.. إن واجهتهم بشوا لك.. وربما تملقوك.. وإن استدبرتهم ولغوا في دمك.. وربما اغتالوك.. مع ذلك, هي لا تنكر أن في أعماقها شعور ملتهب من الغيرة, ما خبت ناره يومًا إلا كي تعود لتضطرم من جديد..
من يعي مأساة فتاة لم تصبح زوجة..؟
من يفهم فاجعة زوجة لم تصبح أمّا..؟
من يدرك بلوى امرأة تتآمرعليها, بالصمت الصارخ, كل الجارات..؟
رحمها أرض خصبة.. هي تعرف ذلك, والاطباء كلهم أكدوا هذه الحقيقة.. فلمَ إذن تحرم بذرة صالحه..؟
توالت عليها الايام والسنون رتيبة ممله.. صار نهار الناس ليلا عندها.. وليلها كالنهار.. تعطل في عمرها الامل.. وفقدت أي رغبة في أي شيء.. أصيب قلبها بالتصحر العاطفي.. وتغلغل الفتور, إن لم يكن أكثر, في علاقتها بزوجها.. صار كل منهما يجتنب ان ينفرد به الآخر.. كأنما يخافان انفجار مواجهة يتحرق رمادها في الأعماق منذ زمن..
يقضي هوأغلب أوقاته في الخارج.. أمّا هي فلم تعد تشعر به إن دخل او خرج.. انكفأت على نفسها.. تمضغ أحزانها.. وتجتر حسرتها.. وحيدة, رغم كثرة الذين من حولها, سوى من بطنها.. وحده الذي كانت تحس تجاهه بشفقة عارمة.. تتحسسه في الليل وتبكي.. تعتذر له عمّا لا ذنب لها فيه.. ولا حيلة..!
ذات صباح من أوائل نيسان.. كانت السماء تواصل ري الارض بأمطار غزيرة لم تتوقف طيلة الليل, على غيرعادة الفصول في مثل تلك الفتره.. قررت زيارة الطبيب في العيادة القريبة.. لأنها قامت من نومها بسبب وخزات خفيفة ولكن مؤلمة في بطنها.. هناك.. قال الطبيب, بعد فحص بسيط أجراه عليها, أنها ببساطة شديدة.. حامل...
تغير وجه الحياة.. وغير التاريخ مساره.. انقلبت حياة الاسرة, كمن غادر القبرعائدًا الى الدنيا..
كبرت 'أمل' محوطة برعاية قلما توفرت لطفل.. كانت العائلة كلها ; الابوان, الأجداد, الاعمام.. بل والمعارف والاصدقاء, كل يتفنن في مداعبتها وتدليلها.. ويتسابقون لتلبية طلباتها..
الى أن كان يوم..
ذات أول ايلول.. اليوم الذي كانت فيه قدماها الصغيرتان ستطأان لأول مرة أرض الروضه.. انسلت 'أمل', ابنة الرابعه, خارج البيت, باكرًا من فرط فرحتها.. وهناك.. بقرب عمود الكهرباء, في الساحة نفسها, جلست على الارض تحكم اقفال شنطة زوادتها.. وصلت الحافله التي ستقلها وبقية الاطفال.. لم ينتبه السائق لوجودها.. سافر بسيارته الكبيره الى الوراء.. فمسحت عجلتها الجسد الصغير بالاسفلت...
علا الصراخ من البيوت.. اجتمع الناس.. انتحب الرجال قبل النساء.. وأمّا 'أمل', فكان على وجهها البرىء ابتسامة من فاجأه الموت على حين غرة , ولسان حالها يقول : يما ! شفتِ الويل لشفتيني.. كيف بهالسهولة ضيعتيني..
04/08/2008 11:16:36
... يمّا لا تتأخري.. الساعه عشره.. لا تنسي التبّوله.. كل الأمهات جايات.. أشرقت الطفولة على وجهها كالبراءه..
ألقت أوامرها, كما هو طبع أولاد هذا الزمان, ومشت بقفزات صغيرة, مثل جندب.. على جانبي رأسها خصلتا شعر مربوطتان بعناية, مثل قرنين صغيرين.. وليس على ظهرها تلك الشنطة التي طالما حملت خلال أيام العام زوادتها.. فاليوم آخر ايام السنة الدراسية, ومعلمة الروضة نظمت بهذه المناسبة, احتفالا متواضعًا, دعت اليه الامهات..
تبعتها أمها حتى سلم الحافله.. ربتت على كتفيها بحنان بالغ, واعتذرت بشبه تذمر, لان عليها العودة بسرعة لتجهيز بقيه الاولاد لمدارسهم..
من هناك.. خلف النافذة الموغلة في الكآبه.. تمنت لو تطلق العنان لصرخة مكتومه : أمهمومة انت ِ بالاولاد..؟ خذي نصف الذي ظل من عمري وأسعفيني بهَم ٍ مماثل.!
منذ ثلاث سنين, او أقل قليلا, تحرص على الجلوس عند ذات النافذة, ساعة انطلاق اطفال الحي الى مدارسهم.. تحدق فيهم وقت يجيئون مع الصبح, من جميع الجهات, لتجمعهم الساحة القريبة, كالجداول حين تتعانق عند المصب في النهر, ينتظرون السيارة التي تقلهم إلى المدرسه.. تسمع ضجيجهم الصباحي.. تراهم يلعبون ويتمازحون.. وأكثر من مرة, في أيام مضت, ركضت نحوهم كي تفض اشتباكًا اندلع بين بعضهم, دونما سبب واضح..!
تعرفهم كلهم.. ومن خلال هيئاتهم.. ترتيب ثيابهم وتسريح شعورهم, صارت تعرف أمهاتهم أكثر.. !
في بعض الأحايين كان خيالها, لحظة صفاء, أو جنون, يجنح بها لتتخيلهم كلهم ابناءها.. كالصائم يشتهي كل شيء مع أن القليل يكفيه..
وقت تزوجت, يوم كانت في الثامنة عشر, توقعت أن تصير أمّا خلال الاشهر الأولى.. هذا ما حدث فعلا لصديقاتها اللواتي تزوجن في نفس الفتره.. حملن.. وانجبن.. وصار لبعضهن أبناء أمسوا اليوم على عتبات الرجولة الاولى..
إلا هي...
مضى على زواجها اليوم تسعة عشر عامًا.. مع ذلك, ظلت رحمها, طيلة سنين, صحراء مجدبة, لم ينبت فيها حتى الشوك, كأرض سبخة..
ترددت وزوجها على الأطباء والعيادات, القريبة والبعيده.. على الفتّاحين وقارئات الحظ.. انفقا في سبيل ذلك أموال طائله.. لكن دون طائل..
ظلت نظرات جاراتها, على مدى الايام, رغم صمتها, تعيّرها بكل لغات العالم.. سياطًا تجلد, كل يوم, كبرياءها..
أولئك النسوة.. كأنهن خلقن بلا قلوب.. يبتسمن لها إن قابلنها, كما لو أنها لهن أخت شقيقه.. ومن وراء ظهرها يتهامسن عليها وعنها, على أشد ما يكون التشفي.. يستمرئن إمعان التحديق في عمق جرحها المعروض للفرجة..
ويغرسن في كرامتها ألسنة, ليست من عظام ولكنها قادرة على كسر أي عظم..
كانت هي تدرك أن هذا هو حال الناس.. إن واجهتهم بشوا لك.. وربما تملقوك.. وإن استدبرتهم ولغوا في دمك.. وربما اغتالوك.. مع ذلك, هي لا تنكر أن في أعماقها شعور ملتهب من الغيرة, ما خبت ناره يومًا إلا كي تعود لتضطرم من جديد..
من يعي مأساة فتاة لم تصبح زوجة..؟
من يفهم فاجعة زوجة لم تصبح أمّا..؟
من يدرك بلوى امرأة تتآمرعليها, بالصمت الصارخ, كل الجارات..؟
رحمها أرض خصبة.. هي تعرف ذلك, والاطباء كلهم أكدوا هذه الحقيقة.. فلمَ إذن تحرم بذرة صالحه..؟
توالت عليها الايام والسنون رتيبة ممله.. صار نهار الناس ليلا عندها.. وليلها كالنهار.. تعطل في عمرها الامل.. وفقدت أي رغبة في أي شيء.. أصيب قلبها بالتصحر العاطفي.. وتغلغل الفتور, إن لم يكن أكثر, في علاقتها بزوجها.. صار كل منهما يجتنب ان ينفرد به الآخر.. كأنما يخافان انفجار مواجهة يتحرق رمادها في الأعماق منذ زمن..
يقضي هوأغلب أوقاته في الخارج.. أمّا هي فلم تعد تشعر به إن دخل او خرج.. انكفأت على نفسها.. تمضغ أحزانها.. وتجتر حسرتها.. وحيدة, رغم كثرة الذين من حولها, سوى من بطنها.. وحده الذي كانت تحس تجاهه بشفقة عارمة.. تتحسسه في الليل وتبكي.. تعتذر له عمّا لا ذنب لها فيه.. ولا حيلة..!
ذات صباح من أوائل نيسان.. كانت السماء تواصل ري الارض بأمطار غزيرة لم تتوقف طيلة الليل, على غيرعادة الفصول في مثل تلك الفتره.. قررت زيارة الطبيب في العيادة القريبة.. لأنها قامت من نومها بسبب وخزات خفيفة ولكن مؤلمة في بطنها.. هناك.. قال الطبيب, بعد فحص بسيط أجراه عليها, أنها ببساطة شديدة.. حامل...
تغير وجه الحياة.. وغير التاريخ مساره.. انقلبت حياة الاسرة, كمن غادر القبرعائدًا الى الدنيا..
كبرت 'أمل' محوطة برعاية قلما توفرت لطفل.. كانت العائلة كلها ; الابوان, الأجداد, الاعمام.. بل والمعارف والاصدقاء, كل يتفنن في مداعبتها وتدليلها.. ويتسابقون لتلبية طلباتها..
الى أن كان يوم..
ذات أول ايلول.. اليوم الذي كانت فيه قدماها الصغيرتان ستطأان لأول مرة أرض الروضه.. انسلت 'أمل', ابنة الرابعه, خارج البيت, باكرًا من فرط فرحتها.. وهناك.. بقرب عمود الكهرباء, في الساحة نفسها, جلست على الارض تحكم اقفال شنطة زوادتها.. وصلت الحافله التي ستقلها وبقية الاطفال.. لم ينتبه السائق لوجودها.. سافر بسيارته الكبيره الى الوراء.. فمسحت عجلتها الجسد الصغير بالاسفلت...
علا الصراخ من البيوت.. اجتمع الناس.. انتحب الرجال قبل النساء.. وأمّا 'أمل', فكان على وجهها البرىء ابتسامة من فاجأه الموت على حين غرة , ولسان حالها يقول : يما ! شفتِ الويل لشفتيني.. كيف بهالسهولة ضيعتيني..
الثلاثاء فبراير 28, 2023 12:27 am من طرف samarahmad78
» خسارة عليك يا منتدى النسر الاحمر
الأحد فبراير 26, 2023 1:48 am من طرف راهب الفكر
» أقوال جورج حبش
الأحد فبراير 26, 2023 1:47 am من طرف راهب الفكر
» اليسار التونسي الآن وهنا
الثلاثاء مارس 02, 2021 11:20 am من طرف mouyn
» أغنية يا أسرانا يا بواسل (جديد الشعبية)
الإثنين ديسمبر 10, 2018 12:52 am من طرف Iyad
» أغنية يا أسرانا يا بواسل (جديد الشعبية)
السبت ديسمبر 08, 2018 6:14 pm من طرف Iyad
» فش غلّك واحكي .^ اكثر ظاهرة او عادة بتتمنى زوالها من مجتمعنا ^.
الخميس فبراير 22, 2018 5:00 pm من طرف زهر اللوز
» اربع كلمات تكشف عن حالتك
الخميس فبراير 22, 2018 4:58 pm من طرف زهر اللوز
» حصريا اغنية غسان كنفانى اسمو على الريشة
الجمعة أغسطس 21, 2015 2:33 pm من طرف ابو الحكيم 1
» احدث اغنية للجبهة:هيلا هيلا ديمقراطية جبهة قوية 200% تربي رجال
الخميس فبراير 26, 2015 12:56 pm من طرف ابن الديمقراطية
» مرحبا
الأربعاء يناير 28, 2015 9:33 am من طرف mared althawra
» أغاني رائعة للفرقة اليسارية...فرقة الطريق العراقية
الثلاثاء يناير 27, 2015 6:22 am من طرف izzildin
» جميع البومات فرقة صابرين
الخميس سبتمبر 18, 2014 9:56 am من طرف ooyy
» ويستمرّ النضال في تـــونس..
السبت مارس 29, 2014 8:16 am من طرف mouyn
» حصريا اغنية وصية الشهيد من شريط الهدف 11
الأربعاء مارس 12, 2014 4:53 pm من طرف safwan zaben
» اغنية الزحف الجبهاوي للانطلاقة 42
السبت فبراير 15, 2014 12:06 pm من طرف mof2014
» حصري على ملتقى النسر الاحمر اغنية القدس تشرررع
السبت نوفمبر 30, 2013 12:40 am من طرف القدس عربية
» ******* ابو الفقر .. حداية نار موسى حافظ والجلماوي وكمان شاعر ثالث
الخميس أكتوبر 24, 2013 3:43 pm من طرف غالوب
» اشحن رصيدك مجانا
الإثنين سبتمبر 09, 2013 9:04 pm من طرف ندي فلسطين
» ماتفوت لهون
الجمعة يوليو 26, 2013 3:11 pm من طرف yayaba007