دمعة الأربعاء - غسان كنفاني يحجز المقعد الأول في سينما فلسطين..
بقلم: أحمد دحبور
ويوم أمس، أمس تحديدا، حلت ذكراه السادسة والثلاثون. ولما كان كل ما عاشه بيننا ستا وثلاثين سنة، فان المسافة الفاجعة تكون قد أبلغتنا يوم أمس، انه عاش على الأرض بعدد السنوات التي قضاها تحتها حتى الآن، فلولا الانفجار الغادر الذي هز حي الحازمية البيروتي يوم 8/7/1972، لكان من حق غسان كنفاني أن يحتفل، ويحتفل معه شعبه الفلسطيني، بسنواته الاثنتين والسبعين. ولكن منذا الذي يستطيع ان يتخيل ذلك الشاب السمح، الفياض بالحيوية ابداعا وفرحا، المزود بالسخرية الذكية، وقد اصبح شيخا يتجعد وجهه بالغضون، ويشتعل الرأس شيبا؟ لا، انه لم يصل الى ذلك، فاشتعل القلب الفلسطيني حسرة ..
انه ابو فايز، الذي عرفناه حتى لو كان بعضنا لم يره شخصيا. انه ذلك الشاب الوجودي، الملتزم بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، المؤرخ، القاص، الروائي، الرسام، الصحفي والمخرج الصحفي، الناقد النافذ، الذي كتب الشعر، واقتحم باسمه ورواياته باب السينما الذي ظل موصدا في وجه الفلسطينيين منذ الأخوين لاما ..
فيا له من شخصية تاريخية مهيبة من مواليد 1936، ويا له من موهبة يانعة لا تزال في الربيع السادس والثلاثين، وبالاشارة الى السينما، نذكر ان فلسطين التي تتباهى بفيلم الأخوين لاما، قبله في الصحراء، منذ عام 1927. قد اغلق القهر والاحتلال دروب السينما في وجهها، فاكتفت بعد انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة، بالأفلام التسجيلية التي حققت بها سبقا وتفوقا ملحوظين. وكان لها محاولة حماسية في فيلم خطابي اسمه الفلسطيني الثائر عام 1964، حتى اكتشف العرب أن في الفلسطينيين روائيا نوعيا، اسمه غسان كنفاني. فتهتدي اليه المؤسسة العامة للسينما السورية عام 1971، وتتعاقد معه على تحويل روايته ما تبقى لكم الى فيلم سينمائي. ومع نجاح التجربة تعاقدت معه المؤسسة على استثمار عمله الروائي الأكثر شهرة: رجال في الشمس. ومن المفارقات، ان غسان المناضل العنيد في صفوف الجبهة الشعبية، كان ممنوعا، بسبب التزامه الحزبي، من دخول البلد المنتج، فكان الفنيون المعنيون يحجون اليه في بيروت لتداول التفاصيل معه، ولم يتح له ان يرى الفيلمين المأخوذين عن روايتيه في اي من دور السينما. اما الفيلم الثالث، المأخوذ عن روايته عائد الى حيفا، فقد انتجته الجبهة الشعبية، ولم يره ابو فايز بطبيعة الحال، فقد كان حينذاك، شهيدا تحت الثرى ..
وبهذا يكون غسان كنفاني رائدا في السينما الفلسطينية من حيث لم يقصد. فقد كانت رواياته الثلاث هي طلائع الروايات غير المسبوقة فلسطينيا في انتقالها من الحبر والوروق الى السلولويد والضوء في اطار الفن السابع ..
واذ نسجل، بالفخر والعرفان، بادرة المؤسسة العامة للسينما السورية في التعالي على الخلاف السياسي، واحراز السبق في توظيف غسان سينمائيا، واذ نشهد للجبهة بتقديم احدى رواياته سينمائيا، فاننا نسجل ان فيلم عائد الى حيفا هو اول فيلم روائي فلسطيني من انتاج فلسطيني. ما يعني ان شهيدنا الغالي الكبير ظل رائدا فينا حيا وشهيدا .
فيلم السكين
من الشيق اللافت للنظر، ان تكون ما تبقى لكم، هي الرواية الاولي من اعمال غسان كنفاني التي شقت طريقها الى السينما. اما اللافت في الأمر، فهو ان هذه الرواية صعبة التنفيذ كما كانت صعبة القراءة، وسأوضح ذلك فيما بعد، مع ان السينما في العالم الثالث الذي ننتمي اليه، غالبا ما تميل الى الأحداث المتسلسلة التي يسهل استيعابها ومتابعتها. الا اننا عندما نتذكر ان السيناريست الذي فصل ما تبقى لكم على مقاس السينما، واعطاها اسما جديدا، السكين، هو الفنان العراقي الكبير قيس الزبيدي، يبطل العجب. واظنه كان متفقا مع مخرج الفيلم السوري خالد حمادة على ان يكون العمل غير ملون، ان لم يكن هو الذي اقترح ذلك، لا لأن فيلم الاسود والابيض هو الذي كان اكثر شيوعا في بلادنا سنة الانتاج: 1971. بل لأن من سياسة قيس الفنية، ان يوغل في تعميق مستويات الظل التي يوفرها الاسود والابيض، بينما كانت السينما الملونة التي كان السينمائيون لا يزالون فرحين مدهوشين بها، مهددة بأن تصرف الاهتمام عن أثر الصورة في الانعكاسات النفسية .
على أن الفيلم، جاء يشكو - من وجهة نظر الجمهور الذي يتوقع حركة وصخبا من فيلم يعالج القضية الفلسطينية - حالة من بطء الايقاع، كأنما يرصد كل خلجة في جسد الفتى حامد، المعذب، الهارب من العار، الذاهب الى الأم بمعنييها الطبيعي والرمزي، كما كانت الكاميرا تستبطن وجه مريم التي كانت مهددة بالعنوسة لولا زواجها الشائن من زكريا النتن. وكان من الصعب توصيل رمز الصحراء سينمائي وكأنها كائن حي كما قصد غسان ان تكون، الا ان رمز الساعة كان ممكنا اجرائيا بمتابعة البندول الذي يتحرك برتابة، والدقات التي تشارك في الايحاء بالضغط النفسي وتقدم الزمن ..
وكأنما قيس الزبيدي وخالد حمادة، السيناريست والمخرج، قد زهدا بالتفصيل الضروري الذي اوجده غسان لشرح العلاقة العدوانية الغامضة بين حامد وجندي الاحتلال، فاكتفيا بما يشبه النهاية المفتوحة. وفي يقيني ان الفترة التي تم فيها تنفيذ هذا الفيلم كان لها علاقة بمسار الأحداث سينمائيا. فعام 1971 لم يكن واضحا بعد، مصير الصراع الفلسطيني الصهيوني، وان كانت الخياارات واضحة . فنحن امام عدوين متروكين في الخلاء، ونتيجة هذا الارتطام لم تكن قد وضحت بعد ..
ببقي ان اشير الى الممثلين، وهم رفيق السبيعي وناجي جبر السوريان، وسهير المرشدي المصرية، بينما لا يوجد الا ممثل فلسطيني واحد وهو بسام لطفي ابو غزالة الذي نشأ في سورية. وهو تشكيل يجعل من الصعب تقديم اللهجة الفلسطينية اليافاوية بأداء تلقائي، لكن ما خفف من وطأة هذه المشكلة ان الحوار كان خفيفا غير مكثف، وهو جزء من سياسة قيس الزبيدي السينمائية التي تميل الى الاقتصاد اللغوي لتفرد للرؤية البصرية مداها المطلوب. ولكن الصوت كان حاضرا ومؤثرا جدا من خلال الموسيقى التصويرية البارعة للفنان السوري الكبير صلحي الوادي .
وباختصار: ما كان لمثل هذا الفيلم ان ينجح شعبيا، ولكنه قدم اضافة الى المثقفين المعنيين بالبهجة البصرية .
ما تبقى لكم
آثرت، خلافا للتسلسل المنطقي، أن أبدأ بالفيلم المأخوذ عن الرواية هذه المرة، لاحساسي بأن صانعي - السكين - قد حاولوا تحقيق اكبر قدر من الاستقلال، في نقل النص من جنس ادبي الى جنس فني حديث. لكن هذا لا ينفي ان رواية - ما تبقى لكم - هي الاصل في هذا السياق، وكأنما انتبه غسان كنفاني الى ركوبه مركبا غير مألوف، للوصول الى غاية الرواية. فوضع، منذ البداية، توضيحا في ثمانية عشر سطرا فقط، ليشير الى أن ابطال الرواية هم خمسة وليسوا ثلاثة، فالى جانب الفتى حامد، وشقيقته المنكوبة مريم، وغريمه وصهره المفروض زكريا النتن، هناك بطلتان لا يمكن التغاضي عن حضورهما هما الساعة والصحراء .
ولقد قيل الكثير في أن غسان كان متأثرا برواية الصخب والعنف للامريكي الفذ وليم فوكنر، بل قيل انه كان متأثرا بترجمة جبرا ابراهيم جبرا تحديدا لهذه الرواية البارعة. واذا كان في هذا بعض الصحة، فان من العدل انصاف غسان، ابن الثلاثين عاما يوم اصداره هذه الرواية، بأنه لم يقتبس حدثا او فعلا. فرواية ما تبقى لكم هي رواية غسان كنفاني بامتياز، وانما تأثر بتفكيك الأحداث وطريقة اعادة بنائها، ليتمكن على حد تعبيره في توضيحه، من قول كل شيء دفعة واحدة. وقد نجح في ذلك الى حد بعيد، فعلى ما كلفنا هذا الاسلوب من صعوبة في القراءة، وفر لنا، كقراء متابعين، ذروة ما يسمى بلذة النص .
ولو حاولنا، اعادة بناء الرواية بعد ان فككها المؤلف، لعدنا الى بدايات النكبة، عندما اختفى او استشهد والد مريم وحامد في يافا، وانقطعت اخبار امها عنهما، الى ان طلع صوتها في الاذاعة - برنامج رسائل اللاجئين الى ذويهم - وتبين انها في الاردن تحلم بلم شمل الاسرة، اما مريم وحامد فقد القت بهما المقادير في غزة. وكانت مريم شابة، اكبر من اخيها بعشر سنوات. ولم يكن لهما راع او حام او معيل، فتعرضت مريم لغواية اشبه بالاغتصاب من زكريا النتن الذي يمحضه حامد احتقارا كبيرا، ولا سيما بعد تسليمه الفدائي الشاب، واسمه سالم، لسلطات العدو الذي نفذ بالفدائي حكم الاعدام الفوري امام أهل المخيم. وكان حامد الفتى يظن ان كل ما ينقصه كان بسبب غياب أمه، وظل يحلم بلقائها . وعندما فوجىء بأن اخته قد حملت سفاحا من زكريا النتن، كان اعجز من الا يوافق على زواجهما الصوري بمهر غير مدفوع قدره عشرة جنيهات مصرية. ولكنه يمم وجهه، فورا، شطر الصحراء ليذهب الى الاردن على لحم قدميه آملا ان يعثر على أمه. اما مريم المهيضة المكسورة فظلت دقات ساعة الحائط التي جلبتها معها من يافا، تدوي في رأسها وتذكرها بخطوات حامد في الصحراء الموحشة حيث الخطر من الوحوش ومن الأعداء على حد سواء. ولقد كان حامد في عين الخطر فعلا، وقد اصطدم بمجند صهيوني في الظلام، وتمكن من الانتصار عليه واشهار سكينه في وجهه، الا ان في الرواية سكينا ثانية داخل بيت مريم وزكريا الذي تبين انه متزوج وله خمسة اولاد، وهو يريد من مريم ان تجهض لأنه لم يغتصبها ويتزوجها بالتالي، الا للمتعة الحسية لا أكثر. وفي وقت واحد، انما في مكانين مختلفين تطعن مريم زكريا بالسكين ويتحفز حامد لجز عنق المجند الصهيوني الذي اتى من يافا وقد يكون احتل بيت حامد .
من الصعب ان نبسط الأمور بتحويل أي من الابطال الخمسة الى رموز محددة، ولكن المشهد الذي يظلل الرواية بمجمله هو رمز أليم لواقع النكبة، حيث ظلت الساعة تدق معبرة عن قسوة الزمن، والصحراء تنفتح على صراع مصيري، وزكريا النتن والمجند الصهيوني اللذان لم ير أحدهما الآخر، يتماهيان في بوتقة واحدة، بينما ظل حامد ومريم يواجهان مصيرهما وفي يد كل منهما سكين .
بقلم: أحمد دحبور
ويوم أمس، أمس تحديدا، حلت ذكراه السادسة والثلاثون. ولما كان كل ما عاشه بيننا ستا وثلاثين سنة، فان المسافة الفاجعة تكون قد أبلغتنا يوم أمس، انه عاش على الأرض بعدد السنوات التي قضاها تحتها حتى الآن، فلولا الانفجار الغادر الذي هز حي الحازمية البيروتي يوم 8/7/1972، لكان من حق غسان كنفاني أن يحتفل، ويحتفل معه شعبه الفلسطيني، بسنواته الاثنتين والسبعين. ولكن منذا الذي يستطيع ان يتخيل ذلك الشاب السمح، الفياض بالحيوية ابداعا وفرحا، المزود بالسخرية الذكية، وقد اصبح شيخا يتجعد وجهه بالغضون، ويشتعل الرأس شيبا؟ لا، انه لم يصل الى ذلك، فاشتعل القلب الفلسطيني حسرة ..
انه ابو فايز، الذي عرفناه حتى لو كان بعضنا لم يره شخصيا. انه ذلك الشاب الوجودي، الملتزم بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، المؤرخ، القاص، الروائي، الرسام، الصحفي والمخرج الصحفي، الناقد النافذ، الذي كتب الشعر، واقتحم باسمه ورواياته باب السينما الذي ظل موصدا في وجه الفلسطينيين منذ الأخوين لاما ..
فيا له من شخصية تاريخية مهيبة من مواليد 1936، ويا له من موهبة يانعة لا تزال في الربيع السادس والثلاثين، وبالاشارة الى السينما، نذكر ان فلسطين التي تتباهى بفيلم الأخوين لاما، قبله في الصحراء، منذ عام 1927. قد اغلق القهر والاحتلال دروب السينما في وجهها، فاكتفت بعد انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة، بالأفلام التسجيلية التي حققت بها سبقا وتفوقا ملحوظين. وكان لها محاولة حماسية في فيلم خطابي اسمه الفلسطيني الثائر عام 1964، حتى اكتشف العرب أن في الفلسطينيين روائيا نوعيا، اسمه غسان كنفاني. فتهتدي اليه المؤسسة العامة للسينما السورية عام 1971، وتتعاقد معه على تحويل روايته ما تبقى لكم الى فيلم سينمائي. ومع نجاح التجربة تعاقدت معه المؤسسة على استثمار عمله الروائي الأكثر شهرة: رجال في الشمس. ومن المفارقات، ان غسان المناضل العنيد في صفوف الجبهة الشعبية، كان ممنوعا، بسبب التزامه الحزبي، من دخول البلد المنتج، فكان الفنيون المعنيون يحجون اليه في بيروت لتداول التفاصيل معه، ولم يتح له ان يرى الفيلمين المأخوذين عن روايتيه في اي من دور السينما. اما الفيلم الثالث، المأخوذ عن روايته عائد الى حيفا، فقد انتجته الجبهة الشعبية، ولم يره ابو فايز بطبيعة الحال، فقد كان حينذاك، شهيدا تحت الثرى ..
وبهذا يكون غسان كنفاني رائدا في السينما الفلسطينية من حيث لم يقصد. فقد كانت رواياته الثلاث هي طلائع الروايات غير المسبوقة فلسطينيا في انتقالها من الحبر والوروق الى السلولويد والضوء في اطار الفن السابع ..
واذ نسجل، بالفخر والعرفان، بادرة المؤسسة العامة للسينما السورية في التعالي على الخلاف السياسي، واحراز السبق في توظيف غسان سينمائيا، واذ نشهد للجبهة بتقديم احدى رواياته سينمائيا، فاننا نسجل ان فيلم عائد الى حيفا هو اول فيلم روائي فلسطيني من انتاج فلسطيني. ما يعني ان شهيدنا الغالي الكبير ظل رائدا فينا حيا وشهيدا .
فيلم السكين
من الشيق اللافت للنظر، ان تكون ما تبقى لكم، هي الرواية الاولي من اعمال غسان كنفاني التي شقت طريقها الى السينما. اما اللافت في الأمر، فهو ان هذه الرواية صعبة التنفيذ كما كانت صعبة القراءة، وسأوضح ذلك فيما بعد، مع ان السينما في العالم الثالث الذي ننتمي اليه، غالبا ما تميل الى الأحداث المتسلسلة التي يسهل استيعابها ومتابعتها. الا اننا عندما نتذكر ان السيناريست الذي فصل ما تبقى لكم على مقاس السينما، واعطاها اسما جديدا، السكين، هو الفنان العراقي الكبير قيس الزبيدي، يبطل العجب. واظنه كان متفقا مع مخرج الفيلم السوري خالد حمادة على ان يكون العمل غير ملون، ان لم يكن هو الذي اقترح ذلك، لا لأن فيلم الاسود والابيض هو الذي كان اكثر شيوعا في بلادنا سنة الانتاج: 1971. بل لأن من سياسة قيس الفنية، ان يوغل في تعميق مستويات الظل التي يوفرها الاسود والابيض، بينما كانت السينما الملونة التي كان السينمائيون لا يزالون فرحين مدهوشين بها، مهددة بأن تصرف الاهتمام عن أثر الصورة في الانعكاسات النفسية .
على أن الفيلم، جاء يشكو - من وجهة نظر الجمهور الذي يتوقع حركة وصخبا من فيلم يعالج القضية الفلسطينية - حالة من بطء الايقاع، كأنما يرصد كل خلجة في جسد الفتى حامد، المعذب، الهارب من العار، الذاهب الى الأم بمعنييها الطبيعي والرمزي، كما كانت الكاميرا تستبطن وجه مريم التي كانت مهددة بالعنوسة لولا زواجها الشائن من زكريا النتن. وكان من الصعب توصيل رمز الصحراء سينمائي وكأنها كائن حي كما قصد غسان ان تكون، الا ان رمز الساعة كان ممكنا اجرائيا بمتابعة البندول الذي يتحرك برتابة، والدقات التي تشارك في الايحاء بالضغط النفسي وتقدم الزمن ..
وكأنما قيس الزبيدي وخالد حمادة، السيناريست والمخرج، قد زهدا بالتفصيل الضروري الذي اوجده غسان لشرح العلاقة العدوانية الغامضة بين حامد وجندي الاحتلال، فاكتفيا بما يشبه النهاية المفتوحة. وفي يقيني ان الفترة التي تم فيها تنفيذ هذا الفيلم كان لها علاقة بمسار الأحداث سينمائيا. فعام 1971 لم يكن واضحا بعد، مصير الصراع الفلسطيني الصهيوني، وان كانت الخياارات واضحة . فنحن امام عدوين متروكين في الخلاء، ونتيجة هذا الارتطام لم تكن قد وضحت بعد ..
ببقي ان اشير الى الممثلين، وهم رفيق السبيعي وناجي جبر السوريان، وسهير المرشدي المصرية، بينما لا يوجد الا ممثل فلسطيني واحد وهو بسام لطفي ابو غزالة الذي نشأ في سورية. وهو تشكيل يجعل من الصعب تقديم اللهجة الفلسطينية اليافاوية بأداء تلقائي، لكن ما خفف من وطأة هذه المشكلة ان الحوار كان خفيفا غير مكثف، وهو جزء من سياسة قيس الزبيدي السينمائية التي تميل الى الاقتصاد اللغوي لتفرد للرؤية البصرية مداها المطلوب. ولكن الصوت كان حاضرا ومؤثرا جدا من خلال الموسيقى التصويرية البارعة للفنان السوري الكبير صلحي الوادي .
وباختصار: ما كان لمثل هذا الفيلم ان ينجح شعبيا، ولكنه قدم اضافة الى المثقفين المعنيين بالبهجة البصرية .
ما تبقى لكم
آثرت، خلافا للتسلسل المنطقي، أن أبدأ بالفيلم المأخوذ عن الرواية هذه المرة، لاحساسي بأن صانعي - السكين - قد حاولوا تحقيق اكبر قدر من الاستقلال، في نقل النص من جنس ادبي الى جنس فني حديث. لكن هذا لا ينفي ان رواية - ما تبقى لكم - هي الاصل في هذا السياق، وكأنما انتبه غسان كنفاني الى ركوبه مركبا غير مألوف، للوصول الى غاية الرواية. فوضع، منذ البداية، توضيحا في ثمانية عشر سطرا فقط، ليشير الى أن ابطال الرواية هم خمسة وليسوا ثلاثة، فالى جانب الفتى حامد، وشقيقته المنكوبة مريم، وغريمه وصهره المفروض زكريا النتن، هناك بطلتان لا يمكن التغاضي عن حضورهما هما الساعة والصحراء .
ولقد قيل الكثير في أن غسان كان متأثرا برواية الصخب والعنف للامريكي الفذ وليم فوكنر، بل قيل انه كان متأثرا بترجمة جبرا ابراهيم جبرا تحديدا لهذه الرواية البارعة. واذا كان في هذا بعض الصحة، فان من العدل انصاف غسان، ابن الثلاثين عاما يوم اصداره هذه الرواية، بأنه لم يقتبس حدثا او فعلا. فرواية ما تبقى لكم هي رواية غسان كنفاني بامتياز، وانما تأثر بتفكيك الأحداث وطريقة اعادة بنائها، ليتمكن على حد تعبيره في توضيحه، من قول كل شيء دفعة واحدة. وقد نجح في ذلك الى حد بعيد، فعلى ما كلفنا هذا الاسلوب من صعوبة في القراءة، وفر لنا، كقراء متابعين، ذروة ما يسمى بلذة النص .
ولو حاولنا، اعادة بناء الرواية بعد ان فككها المؤلف، لعدنا الى بدايات النكبة، عندما اختفى او استشهد والد مريم وحامد في يافا، وانقطعت اخبار امها عنهما، الى ان طلع صوتها في الاذاعة - برنامج رسائل اللاجئين الى ذويهم - وتبين انها في الاردن تحلم بلم شمل الاسرة، اما مريم وحامد فقد القت بهما المقادير في غزة. وكانت مريم شابة، اكبر من اخيها بعشر سنوات. ولم يكن لهما راع او حام او معيل، فتعرضت مريم لغواية اشبه بالاغتصاب من زكريا النتن الذي يمحضه حامد احتقارا كبيرا، ولا سيما بعد تسليمه الفدائي الشاب، واسمه سالم، لسلطات العدو الذي نفذ بالفدائي حكم الاعدام الفوري امام أهل المخيم. وكان حامد الفتى يظن ان كل ما ينقصه كان بسبب غياب أمه، وظل يحلم بلقائها . وعندما فوجىء بأن اخته قد حملت سفاحا من زكريا النتن، كان اعجز من الا يوافق على زواجهما الصوري بمهر غير مدفوع قدره عشرة جنيهات مصرية. ولكنه يمم وجهه، فورا، شطر الصحراء ليذهب الى الاردن على لحم قدميه آملا ان يعثر على أمه. اما مريم المهيضة المكسورة فظلت دقات ساعة الحائط التي جلبتها معها من يافا، تدوي في رأسها وتذكرها بخطوات حامد في الصحراء الموحشة حيث الخطر من الوحوش ومن الأعداء على حد سواء. ولقد كان حامد في عين الخطر فعلا، وقد اصطدم بمجند صهيوني في الظلام، وتمكن من الانتصار عليه واشهار سكينه في وجهه، الا ان في الرواية سكينا ثانية داخل بيت مريم وزكريا الذي تبين انه متزوج وله خمسة اولاد، وهو يريد من مريم ان تجهض لأنه لم يغتصبها ويتزوجها بالتالي، الا للمتعة الحسية لا أكثر. وفي وقت واحد، انما في مكانين مختلفين تطعن مريم زكريا بالسكين ويتحفز حامد لجز عنق المجند الصهيوني الذي اتى من يافا وقد يكون احتل بيت حامد .
من الصعب ان نبسط الأمور بتحويل أي من الابطال الخمسة الى رموز محددة، ولكن المشهد الذي يظلل الرواية بمجمله هو رمز أليم لواقع النكبة، حيث ظلت الساعة تدق معبرة عن قسوة الزمن، والصحراء تنفتح على صراع مصيري، وزكريا النتن والمجند الصهيوني اللذان لم ير أحدهما الآخر، يتماهيان في بوتقة واحدة، بينما ظل حامد ومريم يواجهان مصيرهما وفي يد كل منهما سكين .
الثلاثاء فبراير 28, 2023 12:27 am من طرف samarahmad78
» خسارة عليك يا منتدى النسر الاحمر
الأحد فبراير 26, 2023 1:48 am من طرف راهب الفكر
» أقوال جورج حبش
الأحد فبراير 26, 2023 1:47 am من طرف راهب الفكر
» اليسار التونسي الآن وهنا
الثلاثاء مارس 02, 2021 11:20 am من طرف mouyn
» أغنية يا أسرانا يا بواسل (جديد الشعبية)
الإثنين ديسمبر 10, 2018 12:52 am من طرف Iyad
» أغنية يا أسرانا يا بواسل (جديد الشعبية)
السبت ديسمبر 08, 2018 6:14 pm من طرف Iyad
» فش غلّك واحكي .^ اكثر ظاهرة او عادة بتتمنى زوالها من مجتمعنا ^.
الخميس فبراير 22, 2018 5:00 pm من طرف زهر اللوز
» اربع كلمات تكشف عن حالتك
الخميس فبراير 22, 2018 4:58 pm من طرف زهر اللوز
» حصريا اغنية غسان كنفانى اسمو على الريشة
الجمعة أغسطس 21, 2015 2:33 pm من طرف ابو الحكيم 1
» احدث اغنية للجبهة:هيلا هيلا ديمقراطية جبهة قوية 200% تربي رجال
الخميس فبراير 26, 2015 12:56 pm من طرف ابن الديمقراطية
» مرحبا
الأربعاء يناير 28, 2015 9:33 am من طرف mared althawra
» أغاني رائعة للفرقة اليسارية...فرقة الطريق العراقية
الثلاثاء يناير 27, 2015 6:22 am من طرف izzildin
» جميع البومات فرقة صابرين
الخميس سبتمبر 18, 2014 9:56 am من طرف ooyy
» ويستمرّ النضال في تـــونس..
السبت مارس 29, 2014 8:16 am من طرف mouyn
» حصريا اغنية وصية الشهيد من شريط الهدف 11
الأربعاء مارس 12, 2014 4:53 pm من طرف safwan zaben
» اغنية الزحف الجبهاوي للانطلاقة 42
السبت فبراير 15, 2014 12:06 pm من طرف mof2014
» حصري على ملتقى النسر الاحمر اغنية القدس تشرررع
السبت نوفمبر 30, 2013 12:40 am من طرف القدس عربية
» ******* ابو الفقر .. حداية نار موسى حافظ والجلماوي وكمان شاعر ثالث
الخميس أكتوبر 24, 2013 3:43 pm من طرف غالوب
» اشحن رصيدك مجانا
الإثنين سبتمبر 09, 2013 9:04 pm من طرف ندي فلسطين
» ماتفوت لهون
الجمعة يوليو 26, 2013 3:11 pm من طرف yayaba007