يغلب على هذه الصفحات الطابع الببليوجرافي، لا التحليل؛ فهي تستهدف الوقوف على، أو الإلمام بجملة من المفاتيح والأدلة إلى المصادر والمراجع ذات الصلة المباشرة بواحد من أهم جوانب قضية القدس، ألا وهو الجانب التاريخي.
في الوقت نفسه، تضع هذه الصفحات عروبة القدس، وتأصيل أدلة هذا البعد المهم من أبعاد هوية المدينة العريقة، في بؤرة الضوء؛ لينال حقه في الذود عنه، فإن الانتفاض دفاعاً عن القدس، ليس مقصوراً على الاستشهاديين، أو المجاهدين، أو رماة الحجارة، فحسب، من أبناء الشعب الفلسطيني البطل، بل إنه ـ الذود أو الدفاع عن القدس ـ واجب ينسحب على كل من له علاقة بالمدينة المقدسة: وطنياً، أو قومياً، أو إسلامياً، أو (بحثياً)، في مواجهة تلك القلة من الصهاينة، المارقين على كل حقائق التاريخ، وثوابت الجغرافيا، وأصول العقائد الصحيحة.
فبرغم أن عروبة فلسطين، ومدينة القدس، باتت من المسائل المحققة علمياً، والمتواترة تاريخياً وسياسياً، لا تزال دوائر الدعاية الصهيونية عامة، والإسرائيلية، خاصة، تخوض وتتمادى في تنكرها لهذه الحقيقة. الأمر الذي يفرض ضرورة الإحاطة بأهم المصادر، التي توثق لعروبة هذا القطر، وهذه المدينة، وتفند الدعاوى الصهيونية والإسرائيلية في هذه المسألة، خاصة إذا كان جانب من هذه المصادر بمنزلة (شاهد من أهلها)؛ إذ إن المصادر اليهودية* قبل العربية والإسلامية تشهد بعروبة فلسطين، ومدينة القدس، وهو ما يضفي على هذه المعالجة الطابع العلمي الموضوعي، بعيداً عن الترويج الإعلامي، أو التحيز السياسي.
قبل الميلاد بنحو ثلاثة آلاف عام، كانت أولى الهجرات العربية الكنعانية إلى شمال شبه الجزيرة العربية، واستقرت على الضفة الغربية لنهر الأردن، أي المنطقة الجبلية من فلسطين، منسابة إلى البحر المتوسط. وسميت الأرض: من النهر إلى البحر، بـ "أرض كنعان"، وأنشأ هؤلاء الكنعانيون مدينة (أورسالم). ثم استقبلت تلك المنطقة ـ 2500 ق.م ـ بعض القبائل القادمة من جزر البحر المتوسط، تسمى قبائل (فلستين)، إلى سواحله الشرقية الجنوبية، عُرفوا بسكان السواحل أو (بالستين). واختلط هؤلاء المهاجرون الجدد بالكنعانيين، لكن غلب الدم الكنعاني على هذا الشعب، وغلب اسم (بالستين) على المكان
تؤكد أعمال التنقيب البريطانية التي تمت في تلك المنطقة، عام 1961، أن الوجود الكنعاني اليبوسي بها، وبالقدس تحديداً، يعود إلى ثلاثة آلاف عام.
كانت بعثة أثرية بريطانية قد أجرت أعمال التنقيب تلك، ولم تعثر من خلالها إلا على فخاريات منقوش عليها، باللغة الكنعانية، أن المؤسسين الأوائل لمدينة القدس هم اليبوسيون، كما كشفت تلك البعثة أنه كان بالمنطقة، التي وجدت بها تلك الآثار، قلعة لليبوسيين.كان هذا من حيث نقطة البدء.. التاريخ.
أما من حيث الموقع. فقد جعل اليبوسيون مقر سكناهم بادئ الأمر، على بعض المرتفعات المجاورة لنبع ماء لا ينضب. وهو يدعى، اليوم، بعين أم الدرج، في قرية سلوان الواقعة في الضاحية الجنوبية من مدينة القدس الحالية.
وحصَّن اليبوسيون ذلك الموقع، أو تلك المدينة. وبمرور الزمن، هجرت تلك المدينة، وحلت محلها نواة رئيسية لمدينة أكبر، تقوم على مرتفعات وتلال أخرى، هي: مرتفع الزيتون، مرتفع الحرم، مرتفع صهيون، وهذه تقع داخل ما يعرف، حالياً، بالقدس القديمة، التي يحيط بها سور القدس الشهير، الذي بناه السلطان العثماني سليمان القانوني، في العصر الإسلامي، 1542م، والمعروف بأبوابه السبعة.
أول اسم ثابت لمدينة القدس هو (أورسالم)، يوم أسسها الكنعانيون العموريون، القادمون من جزيرة العرب، في بداية العصر البرونزي، أي قبل خمسة آلاف عام. وهذا الاسم العموري يعني (أسسها سالم). وقد ورد في نصوص مصرية قديمة، تعود إلى عهد سنوسرت الثالث (1879-1842 ق.م). ثم ذكرت في ألواح تل العمارنة، التي تضمنت ست رسائل، بعث بها ملك المدينة (أورسالم) إلى أخناتون، فرعون مصر، في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، تحديداً في 1370 ق.م. ثم ما لبثت تلك المدينة أن أخذت اسم (يبوس)، نسبة إلى اليبوسيين. وهم من بطون العرب، أيضاً، وقد بنو قلعتها (صهيون)، التي تعني بالكنعانية (مرتفع)، كما بنوا هيكلاً لإلههم (سالم)، فكان بيتاً للعبادة.
كان اسم (أورسالم) قد ظهر، لأول مرة في التاريخ عام 2500 ق.م، على تماثيل مصرية صغيرة. ووجد، أيضاً، هذا الاسم على ألواح أثرية أخرى، اكتشفت مؤخراً في سوريا. أما اسم (يبوس) فقد وجد في رسالة آخر ملوك الكنعانيين (عبد حيبا) إلى فرعون مصر (تحتمس الأول)، عام 1550 ق.م، يطلب فيها الأول من الأخير عونه وحمايته، من بعض أعدائه، وكان خاضعاً ـ تابعاً ـ له.
ذكر مصادر تاريخية أُخرى أن الملك اليبوسي (ملكيصادق) هو أول من بنى يبوس، وكان محباً للسلام، حتى أطلق عليه "ملك السلام"، ومن هنا جاء اسم المدينة (سالم). وبرغم أن تلك المدينة قد خضعت لفراعنة مصر، فلم يحاولوا تمصيرها، واكتفوا بتحصيل الجزية من سكانها. وكانوا يطلقون عليها تارة اسمها اليبوسي (يابيشي)، وتارة اسمها الكنعاني (أورسالم).
لا تثبت المصادر التاريخية* ريادة العرب (الكنعانيين ـ العموريين ـ اليبوسيين) في عمران أرض فلسطين، وتشييد مدنها وقراها، فحسب، بل إن من هذه المصادر ما يعود بتلك البداية إلى أربعة آلاف عام قبل الميلاد، ثم إنها تلتقي جميعها، ومعها المصادر اليهودية ـ كما سبقت الإشارة ـ على حقيقة أن تلك الأرض كانت ملكاً لهؤلاء العرب، قبل أن تطأها قدما أبى الأنبياء، إبراهيم ـ عليه السلام ـ وقبل أن يكون هناك يهودية، أو يهود، أو اسحاق، أو داود. وظلت تلك الأرض عربية، كذلك، يوم نزل بها هؤلاء، بل ويوم تمكنوا ـ كما تمكن نزلاء أو غزاة كثيرون غيرهم ـ من إقامة ملك (عارض) لهم بتلك الأرض، سرعان ما سقط، ثم زال.
لم تحظ مدينة في التاريخ البشري، بما حظيت به القدس من أهمية، جعلتها محط أنظار النازحين، والنزلاء، والغزاة، وكان ذلك سبباً في احتلالها خمساً وعشرين مرة، وتدميرها وإعادة بنائها ثماني عشرة مرة.
على طول الخريطة المديدة لتاريخ مدينة القدس، لم يكن لبني إسرائيل غير علاقة عارضة بهذه المدينة العريقة،ترامت هذه العلاقة بين سنوات متفرقات، كتلك التي أمضوها في بقاع أخرى من العالم، فيما بعد.
عندما هاجر سيدنا إبراهيم إلى هذه المنطقة، قادماً من بلاد ما بين النهرين "كان الكنعانيون، حينئذ، في الأرض"، كما تذكر التوراة. وكانت أورسالم يسكنها هؤلاء، ولهم ديانتهم، وملكهم، وعلاقاتهم بجيرانهم. وتذكر التوراة، أيضاً، أن أمير يبوس (أورسالم)، في ذلك العهد، كان (ملكي صادق).
بينما يعود الوجود الكنعاني اليبوسي بتلك المنطقة إلى ثلاثة آلاف عام، نجدنا لا نسمع بأي وجود للآراميين قبل عام 1600 ق.م، فإن نزوح القبائل السامية الآرامية من بلاد شمال ما بين النهرين، واستيطانها في الأراضي السورية، يعود إلى ما بين 1600-1200 ق.م.
رحل يعقوب ـ ابن إسحاق بن إبراهيم ـ وأبناؤه من فلسطين إلى مصر، في 1620 ق.م. وكان مكثهم في مصر أربعمائة وثلاثين سنة.(13) ثم رحل بنوا إسرائيل من مصر، بقيادة النبي موسى، 1250 ق.م، وعبروا سيناء إلى فلسطين، وذلك في عصر رمسيس الثاني.
دخل العبرانيون ـ بنوا إسرائيل ـ فلسطين من جهة الشرق، بقيادة يوشع بن نون، واحتلوا أريحا، ثم تسللوا إلى المناطق الجبلية (1152-1025 ق.م)، وأصبح لهم تجمعان، في الشمال والجنوب، لم يرتبطا معاً إلا في عهد داود، الذي دخل مدينة سالم 1005 ق.م، واتخذها عاصمة لملكه، ثم تسلمها سليمان، وأقام حولها سوراً على الأساسات التي وضعها اليبوسيون ـ بناة السور الأول ـ وبنى معبداً (960 ق.م) على أنقاض معبد اليبوسيين القديم.(15)
ما لبثت المملكة العبرية أن انقسمت، بعد وفاة سليمان إلى إمارتين: إمارة يهودا ـ أسرة داود وبني يهودا ـ وعاصمتها أورشليم (أورسالم). وإمارة إسرائيل في السامرة، وعاصمتها شكيم، بالقرب من نابلس الحالية.
قضى ملك آشور على إمارة إسرائيل، عام 722 ق.م، وأجلى سكانها إلى بلاده. وتعرضت الإمارة الثانية (يهودا) للعدوان الخارجي، أكثر من مرة، وكذا تعرض سكانها للسبي، مراراً. كان السبي الأول، عندما تعرضت دولة يهودا لغزو بابلي، بقيادة الملك (سرجون)، الذي أسر من شعب يهودا (الكنعاني واليهودي) إلى بلاده أعداداً كبيرة. وأصبح لهم نفوذ، وأموال، وعبيد في ذلك المنفى. كان السبي الثاني إلى بابل، أيضاً، واشتهر أكثر لارتباطه بهدم هيكل سليمان، فقد غزا ملك بابل (نبوخذ نصَّر) يهودا، وكسر، نهائياً، عرش داود في أورشليم، عام 597 ق.م، وقوَّض الهيكل من جذوره، وعاد إلى بلاده بعشرة آلاف أسير من اليهود. وكان هدم الهيكل، في 9/8/586 ق.م. ثم سمح قورش ملك فارس لليهود بالعودة إلى أورشليم (538 ق.م) وسمح لهم كذلك بإعادة بناء الهيكل، فتم بناؤه في عهد بنيهم (عزير)، وأعانهم على ذلك ملك الفرس (بهمن)، الذي حدد لهم حدوداً دون بناء سليمان. ثم تداولهم ملوك يونان، والفرس، والروم، ثم استفحل الملك لصهرهم (هيرودس)، الذي حكمهم من قِبَل الرومان، فجدد لهم الهيكل على بناء سليمان (11 ق.م)، غير أن أقلية منهم تمردت، مطالبة بالحكم الذاتي، فحاصرهم الإمبراطور الروماني فسباسيان، ثم ابنه تيتس، الذي تمكن من هدم الهيكل وتشتيت اليهود في أطراف الإمبراطورية الرومانية (70م)، ولم تقم لهم قائمة بهذه المدينة، حتى بداية الحركة الصهيونية الحديثة، في نهايات القرن التاسع عشر.
وهكذا يتضح ترامي فترات الوجود اليهودي في فلسطين والقدس، وصفة هذا الوجود ـ غزواً، أو نزوحاً، ولجوءاً إليها ـ بينما تستمر القدس عربية، حتى خاطبت السماء المسيح ـ آخر أنبياء بني إسرائيل ـ وتلامذته، إذ كان الصوت النازل من السماء على المحتشدين في أورشليم/ القدس، من الرسل، والتلامذة، يتحدث بالعربية، إلى جانب لغات أُخرى، كان يتحدث بها بقية قاطني المدينة، من اليهود، وغيرهم.(18)
لقد عكف صفوة من الباحثين المتخصصين، على تحقيق عروبة القدس خاصة، وفلسطين عامة، فيما يشبه انتفاضة علمية، أو بحثية، تكفي هذه الصفحات إعادة البحث فيما انتهى إليه هؤلاء. غير أنه من الأهمية بمكان ـ كما هو مستهدف من كتابة هذه الصفحات ـ الإحاطة بالإنتاج العلمي لهذه الصفوة المخلصة، ليكون في متناول غيرهم من الباحثين في هذه القضية.وهو، هذا الإنتاج العلمي، أيضاً، كفيل بأن يدحض محاولات التنكر للتاريخ العربي لمدينة القدس، قبل الفتح الداودي. سواء كان هذا التنكر من جانب اليهود، أم كان من جانب مَنْ سايرهم، أو حذا حذوهم، لغرض في نفسه، أو لسوء إدراكه.
إلى جانب كل الأدلة التاريخية السابق الإشارة إليها، يضاف الدليل الميداني، الذي يتمثل في كثافة الوجود العربي بالبلدة القديمة بالقدس، ويحفظ لها هويتها العربية، واضحة المعالم في مظهرها العام، وطبيعة حياتها اليومية، وأنشطتها وآثارها، وبنيتها الديموجرافية، إذ لا يوجد بها أكثر من 2300 يهودي، بين خمسة وثلاثين ألف عربي: مسلم ومسيحي. ذلك برغم كل الممارسات الإسرائيلية التي تستهدف اغتيال عروبة هذه المدينة، من مصادرة للأراضي، وهدم للمنشآت (سكنية، زراعية، صناعية، إدارية)، وسياسات استيطان، داخل البلدة، وحولها، وأعمال ترانسفير، وتهويد منظمة.
ثم إن مظاهر الانقسام الفعلي على أرض الواقع، بين شطري مدينة القدس، الشرقي والغربي، والملامح المميزة للشطر الشرقي (المباني، الشوارع، السلوك العام، الخدمات، المؤسسات، الديموجرافيا، أنشطة عمرانية فلسطينية مضادة لسياسة التهويد الإسرائيلية)،تؤكد البعد التاريخي لعروبة مدينة القدس؛ إذ أن أصالة عروبة شطرها الشرقي، تعرِّي وتفضح الوجود الصهيوني المستحدث في شطرها الغربي.
في الوقت نفسه، تضع هذه الصفحات عروبة القدس، وتأصيل أدلة هذا البعد المهم من أبعاد هوية المدينة العريقة، في بؤرة الضوء؛ لينال حقه في الذود عنه، فإن الانتفاض دفاعاً عن القدس، ليس مقصوراً على الاستشهاديين، أو المجاهدين، أو رماة الحجارة، فحسب، من أبناء الشعب الفلسطيني البطل، بل إنه ـ الذود أو الدفاع عن القدس ـ واجب ينسحب على كل من له علاقة بالمدينة المقدسة: وطنياً، أو قومياً، أو إسلامياً، أو (بحثياً)، في مواجهة تلك القلة من الصهاينة، المارقين على كل حقائق التاريخ، وثوابت الجغرافيا، وأصول العقائد الصحيحة.
فبرغم أن عروبة فلسطين، ومدينة القدس، باتت من المسائل المحققة علمياً، والمتواترة تاريخياً وسياسياً، لا تزال دوائر الدعاية الصهيونية عامة، والإسرائيلية، خاصة، تخوض وتتمادى في تنكرها لهذه الحقيقة. الأمر الذي يفرض ضرورة الإحاطة بأهم المصادر، التي توثق لعروبة هذا القطر، وهذه المدينة، وتفند الدعاوى الصهيونية والإسرائيلية في هذه المسألة، خاصة إذا كان جانب من هذه المصادر بمنزلة (شاهد من أهلها)؛ إذ إن المصادر اليهودية* قبل العربية والإسلامية تشهد بعروبة فلسطين، ومدينة القدس، وهو ما يضفي على هذه المعالجة الطابع العلمي الموضوعي، بعيداً عن الترويج الإعلامي، أو التحيز السياسي.
قبل الميلاد بنحو ثلاثة آلاف عام، كانت أولى الهجرات العربية الكنعانية إلى شمال شبه الجزيرة العربية، واستقرت على الضفة الغربية لنهر الأردن، أي المنطقة الجبلية من فلسطين، منسابة إلى البحر المتوسط. وسميت الأرض: من النهر إلى البحر، بـ "أرض كنعان"، وأنشأ هؤلاء الكنعانيون مدينة (أورسالم). ثم استقبلت تلك المنطقة ـ 2500 ق.م ـ بعض القبائل القادمة من جزر البحر المتوسط، تسمى قبائل (فلستين)، إلى سواحله الشرقية الجنوبية، عُرفوا بسكان السواحل أو (بالستين). واختلط هؤلاء المهاجرون الجدد بالكنعانيين، لكن غلب الدم الكنعاني على هذا الشعب، وغلب اسم (بالستين) على المكان
تؤكد أعمال التنقيب البريطانية التي تمت في تلك المنطقة، عام 1961، أن الوجود الكنعاني اليبوسي بها، وبالقدس تحديداً، يعود إلى ثلاثة آلاف عام.
كانت بعثة أثرية بريطانية قد أجرت أعمال التنقيب تلك، ولم تعثر من خلالها إلا على فخاريات منقوش عليها، باللغة الكنعانية، أن المؤسسين الأوائل لمدينة القدس هم اليبوسيون، كما كشفت تلك البعثة أنه كان بالمنطقة، التي وجدت بها تلك الآثار، قلعة لليبوسيين.كان هذا من حيث نقطة البدء.. التاريخ.
أما من حيث الموقع. فقد جعل اليبوسيون مقر سكناهم بادئ الأمر، على بعض المرتفعات المجاورة لنبع ماء لا ينضب. وهو يدعى، اليوم، بعين أم الدرج، في قرية سلوان الواقعة في الضاحية الجنوبية من مدينة القدس الحالية.
وحصَّن اليبوسيون ذلك الموقع، أو تلك المدينة. وبمرور الزمن، هجرت تلك المدينة، وحلت محلها نواة رئيسية لمدينة أكبر، تقوم على مرتفعات وتلال أخرى، هي: مرتفع الزيتون، مرتفع الحرم، مرتفع صهيون، وهذه تقع داخل ما يعرف، حالياً، بالقدس القديمة، التي يحيط بها سور القدس الشهير، الذي بناه السلطان العثماني سليمان القانوني، في العصر الإسلامي، 1542م، والمعروف بأبوابه السبعة.
أول اسم ثابت لمدينة القدس هو (أورسالم)، يوم أسسها الكنعانيون العموريون، القادمون من جزيرة العرب، في بداية العصر البرونزي، أي قبل خمسة آلاف عام. وهذا الاسم العموري يعني (أسسها سالم). وقد ورد في نصوص مصرية قديمة، تعود إلى عهد سنوسرت الثالث (1879-1842 ق.م). ثم ذكرت في ألواح تل العمارنة، التي تضمنت ست رسائل، بعث بها ملك المدينة (أورسالم) إلى أخناتون، فرعون مصر، في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، تحديداً في 1370 ق.م. ثم ما لبثت تلك المدينة أن أخذت اسم (يبوس)، نسبة إلى اليبوسيين. وهم من بطون العرب، أيضاً، وقد بنو قلعتها (صهيون)، التي تعني بالكنعانية (مرتفع)، كما بنوا هيكلاً لإلههم (سالم)، فكان بيتاً للعبادة.
كان اسم (أورسالم) قد ظهر، لأول مرة في التاريخ عام 2500 ق.م، على تماثيل مصرية صغيرة. ووجد، أيضاً، هذا الاسم على ألواح أثرية أخرى، اكتشفت مؤخراً في سوريا. أما اسم (يبوس) فقد وجد في رسالة آخر ملوك الكنعانيين (عبد حيبا) إلى فرعون مصر (تحتمس الأول)، عام 1550 ق.م، يطلب فيها الأول من الأخير عونه وحمايته، من بعض أعدائه، وكان خاضعاً ـ تابعاً ـ له.
ذكر مصادر تاريخية أُخرى أن الملك اليبوسي (ملكيصادق) هو أول من بنى يبوس، وكان محباً للسلام، حتى أطلق عليه "ملك السلام"، ومن هنا جاء اسم المدينة (سالم). وبرغم أن تلك المدينة قد خضعت لفراعنة مصر، فلم يحاولوا تمصيرها، واكتفوا بتحصيل الجزية من سكانها. وكانوا يطلقون عليها تارة اسمها اليبوسي (يابيشي)، وتارة اسمها الكنعاني (أورسالم).
لا تثبت المصادر التاريخية* ريادة العرب (الكنعانيين ـ العموريين ـ اليبوسيين) في عمران أرض فلسطين، وتشييد مدنها وقراها، فحسب، بل إن من هذه المصادر ما يعود بتلك البداية إلى أربعة آلاف عام قبل الميلاد، ثم إنها تلتقي جميعها، ومعها المصادر اليهودية ـ كما سبقت الإشارة ـ على حقيقة أن تلك الأرض كانت ملكاً لهؤلاء العرب، قبل أن تطأها قدما أبى الأنبياء، إبراهيم ـ عليه السلام ـ وقبل أن يكون هناك يهودية، أو يهود، أو اسحاق، أو داود. وظلت تلك الأرض عربية، كذلك، يوم نزل بها هؤلاء، بل ويوم تمكنوا ـ كما تمكن نزلاء أو غزاة كثيرون غيرهم ـ من إقامة ملك (عارض) لهم بتلك الأرض، سرعان ما سقط، ثم زال.
لم تحظ مدينة في التاريخ البشري، بما حظيت به القدس من أهمية، جعلتها محط أنظار النازحين، والنزلاء، والغزاة، وكان ذلك سبباً في احتلالها خمساً وعشرين مرة، وتدميرها وإعادة بنائها ثماني عشرة مرة.
على طول الخريطة المديدة لتاريخ مدينة القدس، لم يكن لبني إسرائيل غير علاقة عارضة بهذه المدينة العريقة،ترامت هذه العلاقة بين سنوات متفرقات، كتلك التي أمضوها في بقاع أخرى من العالم، فيما بعد.
عندما هاجر سيدنا إبراهيم إلى هذه المنطقة، قادماً من بلاد ما بين النهرين "كان الكنعانيون، حينئذ، في الأرض"، كما تذكر التوراة. وكانت أورسالم يسكنها هؤلاء، ولهم ديانتهم، وملكهم، وعلاقاتهم بجيرانهم. وتذكر التوراة، أيضاً، أن أمير يبوس (أورسالم)، في ذلك العهد، كان (ملكي صادق).
بينما يعود الوجود الكنعاني اليبوسي بتلك المنطقة إلى ثلاثة آلاف عام، نجدنا لا نسمع بأي وجود للآراميين قبل عام 1600 ق.م، فإن نزوح القبائل السامية الآرامية من بلاد شمال ما بين النهرين، واستيطانها في الأراضي السورية، يعود إلى ما بين 1600-1200 ق.م.
رحل يعقوب ـ ابن إسحاق بن إبراهيم ـ وأبناؤه من فلسطين إلى مصر، في 1620 ق.م. وكان مكثهم في مصر أربعمائة وثلاثين سنة.(13) ثم رحل بنوا إسرائيل من مصر، بقيادة النبي موسى، 1250 ق.م، وعبروا سيناء إلى فلسطين، وذلك في عصر رمسيس الثاني.
دخل العبرانيون ـ بنوا إسرائيل ـ فلسطين من جهة الشرق، بقيادة يوشع بن نون، واحتلوا أريحا، ثم تسللوا إلى المناطق الجبلية (1152-1025 ق.م)، وأصبح لهم تجمعان، في الشمال والجنوب، لم يرتبطا معاً إلا في عهد داود، الذي دخل مدينة سالم 1005 ق.م، واتخذها عاصمة لملكه، ثم تسلمها سليمان، وأقام حولها سوراً على الأساسات التي وضعها اليبوسيون ـ بناة السور الأول ـ وبنى معبداً (960 ق.م) على أنقاض معبد اليبوسيين القديم.(15)
ما لبثت المملكة العبرية أن انقسمت، بعد وفاة سليمان إلى إمارتين: إمارة يهودا ـ أسرة داود وبني يهودا ـ وعاصمتها أورشليم (أورسالم). وإمارة إسرائيل في السامرة، وعاصمتها شكيم، بالقرب من نابلس الحالية.
قضى ملك آشور على إمارة إسرائيل، عام 722 ق.م، وأجلى سكانها إلى بلاده. وتعرضت الإمارة الثانية (يهودا) للعدوان الخارجي، أكثر من مرة، وكذا تعرض سكانها للسبي، مراراً. كان السبي الأول، عندما تعرضت دولة يهودا لغزو بابلي، بقيادة الملك (سرجون)، الذي أسر من شعب يهودا (الكنعاني واليهودي) إلى بلاده أعداداً كبيرة. وأصبح لهم نفوذ، وأموال، وعبيد في ذلك المنفى. كان السبي الثاني إلى بابل، أيضاً، واشتهر أكثر لارتباطه بهدم هيكل سليمان، فقد غزا ملك بابل (نبوخذ نصَّر) يهودا، وكسر، نهائياً، عرش داود في أورشليم، عام 597 ق.م، وقوَّض الهيكل من جذوره، وعاد إلى بلاده بعشرة آلاف أسير من اليهود. وكان هدم الهيكل، في 9/8/586 ق.م. ثم سمح قورش ملك فارس لليهود بالعودة إلى أورشليم (538 ق.م) وسمح لهم كذلك بإعادة بناء الهيكل، فتم بناؤه في عهد بنيهم (عزير)، وأعانهم على ذلك ملك الفرس (بهمن)، الذي حدد لهم حدوداً دون بناء سليمان. ثم تداولهم ملوك يونان، والفرس، والروم، ثم استفحل الملك لصهرهم (هيرودس)، الذي حكمهم من قِبَل الرومان، فجدد لهم الهيكل على بناء سليمان (11 ق.م)، غير أن أقلية منهم تمردت، مطالبة بالحكم الذاتي، فحاصرهم الإمبراطور الروماني فسباسيان، ثم ابنه تيتس، الذي تمكن من هدم الهيكل وتشتيت اليهود في أطراف الإمبراطورية الرومانية (70م)، ولم تقم لهم قائمة بهذه المدينة، حتى بداية الحركة الصهيونية الحديثة، في نهايات القرن التاسع عشر.
وهكذا يتضح ترامي فترات الوجود اليهودي في فلسطين والقدس، وصفة هذا الوجود ـ غزواً، أو نزوحاً، ولجوءاً إليها ـ بينما تستمر القدس عربية، حتى خاطبت السماء المسيح ـ آخر أنبياء بني إسرائيل ـ وتلامذته، إذ كان الصوت النازل من السماء على المحتشدين في أورشليم/ القدس، من الرسل، والتلامذة، يتحدث بالعربية، إلى جانب لغات أُخرى، كان يتحدث بها بقية قاطني المدينة، من اليهود، وغيرهم.(18)
لقد عكف صفوة من الباحثين المتخصصين، على تحقيق عروبة القدس خاصة، وفلسطين عامة، فيما يشبه انتفاضة علمية، أو بحثية، تكفي هذه الصفحات إعادة البحث فيما انتهى إليه هؤلاء. غير أنه من الأهمية بمكان ـ كما هو مستهدف من كتابة هذه الصفحات ـ الإحاطة بالإنتاج العلمي لهذه الصفوة المخلصة، ليكون في متناول غيرهم من الباحثين في هذه القضية.وهو، هذا الإنتاج العلمي، أيضاً، كفيل بأن يدحض محاولات التنكر للتاريخ العربي لمدينة القدس، قبل الفتح الداودي. سواء كان هذا التنكر من جانب اليهود، أم كان من جانب مَنْ سايرهم، أو حذا حذوهم، لغرض في نفسه، أو لسوء إدراكه.
إلى جانب كل الأدلة التاريخية السابق الإشارة إليها، يضاف الدليل الميداني، الذي يتمثل في كثافة الوجود العربي بالبلدة القديمة بالقدس، ويحفظ لها هويتها العربية، واضحة المعالم في مظهرها العام، وطبيعة حياتها اليومية، وأنشطتها وآثارها، وبنيتها الديموجرافية، إذ لا يوجد بها أكثر من 2300 يهودي، بين خمسة وثلاثين ألف عربي: مسلم ومسيحي. ذلك برغم كل الممارسات الإسرائيلية التي تستهدف اغتيال عروبة هذه المدينة، من مصادرة للأراضي، وهدم للمنشآت (سكنية، زراعية، صناعية، إدارية)، وسياسات استيطان، داخل البلدة، وحولها، وأعمال ترانسفير، وتهويد منظمة.
ثم إن مظاهر الانقسام الفعلي على أرض الواقع، بين شطري مدينة القدس، الشرقي والغربي، والملامح المميزة للشطر الشرقي (المباني، الشوارع، السلوك العام، الخدمات، المؤسسات، الديموجرافيا، أنشطة عمرانية فلسطينية مضادة لسياسة التهويد الإسرائيلية)،تؤكد البعد التاريخي لعروبة مدينة القدس؛ إذ أن أصالة عروبة شطرها الشرقي، تعرِّي وتفضح الوجود الصهيوني المستحدث في شطرها الغربي.
الثلاثاء فبراير 28, 2023 12:27 am من طرف samarahmad78
» خسارة عليك يا منتدى النسر الاحمر
الأحد فبراير 26, 2023 1:48 am من طرف راهب الفكر
» أقوال جورج حبش
الأحد فبراير 26, 2023 1:47 am من طرف راهب الفكر
» اليسار التونسي الآن وهنا
الثلاثاء مارس 02, 2021 11:20 am من طرف mouyn
» أغنية يا أسرانا يا بواسل (جديد الشعبية)
الإثنين ديسمبر 10, 2018 12:52 am من طرف Iyad
» أغنية يا أسرانا يا بواسل (جديد الشعبية)
السبت ديسمبر 08, 2018 6:14 pm من طرف Iyad
» فش غلّك واحكي .^ اكثر ظاهرة او عادة بتتمنى زوالها من مجتمعنا ^.
الخميس فبراير 22, 2018 5:00 pm من طرف زهر اللوز
» اربع كلمات تكشف عن حالتك
الخميس فبراير 22, 2018 4:58 pm من طرف زهر اللوز
» حصريا اغنية غسان كنفانى اسمو على الريشة
الجمعة أغسطس 21, 2015 2:33 pm من طرف ابو الحكيم 1
» احدث اغنية للجبهة:هيلا هيلا ديمقراطية جبهة قوية 200% تربي رجال
الخميس فبراير 26, 2015 12:56 pm من طرف ابن الديمقراطية
» مرحبا
الأربعاء يناير 28, 2015 9:33 am من طرف mared althawra
» أغاني رائعة للفرقة اليسارية...فرقة الطريق العراقية
الثلاثاء يناير 27, 2015 6:22 am من طرف izzildin
» جميع البومات فرقة صابرين
الخميس سبتمبر 18, 2014 9:56 am من طرف ooyy
» ويستمرّ النضال في تـــونس..
السبت مارس 29, 2014 8:16 am من طرف mouyn
» حصريا اغنية وصية الشهيد من شريط الهدف 11
الأربعاء مارس 12, 2014 4:53 pm من طرف safwan zaben
» اغنية الزحف الجبهاوي للانطلاقة 42
السبت فبراير 15, 2014 12:06 pm من طرف mof2014
» حصري على ملتقى النسر الاحمر اغنية القدس تشرررع
السبت نوفمبر 30, 2013 12:40 am من طرف القدس عربية
» ******* ابو الفقر .. حداية نار موسى حافظ والجلماوي وكمان شاعر ثالث
الخميس أكتوبر 24, 2013 3:43 pm من طرف غالوب
» اشحن رصيدك مجانا
الإثنين سبتمبر 09, 2013 9:04 pm من طرف ندي فلسطين
» ماتفوت لهون
الجمعة يوليو 26, 2013 3:11 pm من طرف yayaba007