ملتقى النسر الأحمر

أهلا وسهلا بكم فى ملتقى النسر الأحمر
رفيقى الزائر انت غير مسجل نتمنى منك التسجيل
للأستفادة من كل مميزات الملتقى

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

ملتقى النسر الأحمر

أهلا وسهلا بكم فى ملتقى النسر الأحمر
رفيقى الزائر انت غير مسجل نتمنى منك التسجيل
للأستفادة من كل مميزات الملتقى

ملتقى النسر الأحمر

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

فكرى تعبوي تنظيمي


2 مشترك

    قصص قصيرة .......غسان كنفانى

    جيفارا
    جيفارا

    جندي نشيط  جندي نشيط



    عدد الرسائل : 125
    العمر : 56
    نقاط : 6027
    تقييم الأعضاء : 0
    تاريخ التسجيل : 23/12/2007

    قصص قصيرة .......غسان كنفانى Empty قصص قصيرة .......غسان كنفانى

    مُساهمة من طرف جيفارا الثلاثاء مارس 04, 2008 9:29 am

    كنفاني – قصص قصيرة
    <BLOCKQUOTE dir=rtl style="MARGIN-LEFT: 0px">
    <BLOCKQUOTE dir=rtl style="MARGIN-LEFT: 0px">
    <BLOCKQUOTE dir=rtl style="MARGIN-LEFT: 0px">
    <BLOCKQUOTE dir=rtl style="MARGIN-LEFT: 0px">
    <BLOCKQUOTE dir=rtl style="MARGIN-LEFT: 0px">
    <BLOCKQUOTE dir=rtl style="MARGIN-LEFT: 0px">

    1. القميص المسروق
    2. إلى أن نعود
    ]
    </BLOCKQUOTE></BLOCKQUOTE></BLOCKQUOTE></BLOCKQUOTE></BLOCKQUOTE></BLOCKQUOTE>

    [size=16]رفع رأسه إلى السماء المظلمة وهو يقاوم شتيمة كفر صغيرة أوشكت أن تنزلق عن لسانه، واستطاع أن يحس الغيوم السوداء تتزاحم كقطع البازلت، وتندمج ثم تتمزق.
    إن هذا المطر لن ينتهي الليلة، هذا يعني انه لن ينام، بل سيظل منكبا على رفشه، يحفر طريقا تجر المياه الموحلة بعيدا عن أوتاد الخيمة، لقد أوشك ظهره أن يعتاد ضرب المطر البارد.. بل إن هذا البرد يعطيه شعورا لذيذا بالخدر.
    انه يشم رائحة الدخان، لقد أشعلت زوجه النار لتخبز الطحين، كم يود لو انه ينتهي من هذا الخندق، فيدخل الخيمة، ويدس كفيه الباردتين في النار حتى الاحتراق، لا شك انه يستطيع ان يقبض على الشعلة بأصابعه، وان ينقلها من يد إلى أخرى حتى يذهب هذا الجليد عنهما.. ولكنه يخاف ان يدخل هذه الخيمة، ان في محاجر زوجه سؤالا رهيبا ما زال يقرع فيهما منذ زمن بعيد، لا، ان البرد اقل قسوة من السؤال الرهيب.ستقول له اذا ما دخل وهي تغرس كفيها في العجين، وتغرس عينيها في عيونه:هل وجدت عملا؟ماذا سنأكل اذن؟ كيف استطاع(ابو فلان) ان يشتغل هنا وكيف استطاع(ابو علنتان) ان يشتغل هناك؟ثم ستشير الى عبد الرحمن المكور في زاوية الخيمة كالقط الكبول، و ستهز رأسها بصمت ابلغ من الف الف عتاب.. ماذا عنده الليلة ليقول لها سوى ما يقوله في كل ليلة..
    -هل تريدينني ان اسرق لا حل مشاكل عبد الرحمن؟
    ونصب قامته بهدوء لاهث، ثم ما لبث ان عاد، فاتكأ على الرفش المكسور، وانشأ يحدق بالخيمة الداكنة مستشعرا قلقا عظيماوهو يسأل نفسه:
    - وماذا لو سرقت؟
    ان مخازن وكالة الغوث الدولية تقع على مقربة من الخيام، ان قرر ان يبدأ فهو يستطيع بالتأكيد ان ينزلق الى حيث يتكدس الطحين والرز، من ثقب ما سيجده هنا او هناك، ثم ان المال ليس حلال احد، لقد اتى من هناك، من عند ناس قال عنهم استاذ المدرسة لعبد الرحمن انهم " يقتلون القتيل ويمشون في جنازته" فماذا يضر الناس لو انه سرق كيس طحين.. كيسين.. عشرة؟وماذا لو باع شيئا من هذا الطحين الى واحد من اولئك الذين يتمتعون بقدرة عظيمة على استنشاق روائح مسروقات، وبقدرة اعظم في المساومة على ثمنها؟
    ولذت له الفكرة، فدأب بعزم اشد على اتمام حفر الخندق فيما حول الخيمة و اخذ يسأل نفسه من جديد ان لماذا لا يبدأ مغامرته منذ الآن؟ان المطر شديد والحارس مشغول بأمر البرد اكثر من انشغاله بمصلحة وكالة الغوث الدولية، فلماذا لا يبدأ الآن؟ لماذا؟
    - ماذا تعمل يا أبا العبد؟
    ورفع رأسه الى جهة الصوت، وميز شبح ابي سمير قادما من بين صفي الخيام المغروسة الى ما لا نهاية الظلمة..
    -انني احفر طحينا..
    - تحفر ماذا؟
    - احفر.. احفر.. خندقا..
    وسمع ضحكة ابي سمير الرفيعة التي سرعان ما تلاشت في ثرثرته:
    - يبدو انك تفكر بالطحين، ان التوزيع سيتأخر الى ما بعد العشرة الايام الاولى من الشهر القادم، اي بعد خمسة عشر يوما تقريبا، فلا تفكر منذ الآن الا اذا كنت تنوي ان تستعير كيسا او كيسين من المخزن..
    ورأى ذراع ابي سمير تشير باتجاه المخازن، ولمح على شفتيه السميكتين ظلا لابتسامة خبيثة، وشعر بصعوبة الموقف، فعاد يضرب الارض برفشه المكسور.
    - خد هذه السيكارة.. ولكن لا، انك لن تستفيد منها فالمطر مزعج.. لقد نسيت ان السماء تمطر، عقل من الطحين.. مثل الحجر..
    واحس بضيق يأخذ بخناقه، انه يكره ابا سمير منذ زمن بعيد، هذا الثرثار الخبيث:
    - ما الذي اخرجك في هذا المطر؟
    - خرجت.. خرجت لاسألك ان كنت تريد المساعدة.
    - لا.. شكرا..
    -هل ستحفر طويلا؟
    - معظم الليل..
    - لم اقل لك ان تحفر خندقك في النهار؟انك دائما تذهب الى حيث لا ادري وتترك الخيمة.. هل تذهب للبحث عن خاتم سليمان؟
    - لا.. عن شغل..
    ورفع رأسه عن الرفش وهو يلهث..
    - لماذا لا تذهب لتنام وتتركني وحدي؟
    واقترب منه ابو سمير بهدوء جم ووضع كفّه يهزها ببطء وهو يقول بصوت مخنوق:
    - اسمع يا ابا العبد، ان رأيت الآن كيس طحين يمشي من امامك فلا تذع الخبر لاحد!
    - كيف؟
    قالها ابو العبد وصدره ينبض بعنف، وشم رائحة التبغ من فم ابي سمير وهو يهمس وقد فتح عيونه على سعها:
    - هناك اكياس طحين تمشي في الليل وتذهب الى هناك..
    - الى اين؟
    - الى هناك..
    حاول ابو العبد ان يرى الى اين يشير ابو سمير ولكنه وجد ذراعيه مسدلتين على جنبيه، بينما سمع صوته يهمس ببحة عميقة:
    - ستأخذ نصيبك.
    - هل هناك ثقب تدخلون منه؟
    ورفع ابو سمير رأسه نافيا ومفرقعا لسانه بمرح، ثم همس بصوت نصف مبحوح:
    - ان اكياس الطحين تخرج لوحدها.. انها تمشي!
    -انك مجنون ..
    - لا، بل انت مسكين.. اسمع، ولندخل في الموضوع مباشرة، ان ما علينا هو ان نخرج اكياس الطحين من المخزن ونذهب بها هناك، ان الحارس سيمهد لنا كل شيء كما يفعل دائما، ان الذي سيتولى البيع ليس انا، ولا انت، انه الموظف الامريكي الاشقر في الوكالة.. لا، لا تعجب، كل شيء يصبح جائزا ومعقولا بعد الاتفاق.الأمريكي يبيع، وأنا اقبض، والحارس يقبض.. وأنت تقبض، وكله بالاتفاق، فما رأيك؟
    وشعر ابو العبد ان القضية اشد تعقيدا من سرقة كيس اوكيسين، اوعشرة، ورواده شعور لزج بالقرف من المعاملة مع هذا الانسان.. ثقيل الدم كما تعارفوا عليه في المخيم كله.. ولكنه في الوقت ذاته راقه ان يعود يوما الى خيمته وفي يده قميص جديد لعبد الرحمن، واغراض صغيرة لام العبد بعد هذا الحرمان الطويل، كم ستكون ابتسامتاهما جميلتين، ان ابتسامة عبد الرحمن، لوحدها، تستحق المغامرة لا شك، ولكنه لو فشل.. اي مصير اسود ينتظر ام العبد وولدها.. يومها سيحمل عبدالرحمن صندوق مسح الاحذية ليتكور في الشارع هازا رأسه الصغير فوق الاحذية الانيقة، يا للمصير الاسود، ولكنه لو نجح فسيبدو عبد الرحمن انسانا جديدا، وسيقتلع من عيون زوجه ذلك السؤال المخيف. لو نجح، فستنتهي مأساة الخندق في كل ليلة ممطرة، وسيعيش حيث لا يستطيع ان يتصور الآن..
    - لماذا لا تترك هذا الخندق الملعون، لبدأ قبل ان تشرق الشمس؟
    نعم لماذا لا يترك الخندق.. ان عبد الرحمن يلهث من البرد في طرف الخيمة، ويكاد يحس انفاسه تلفح جبينه البارد.. كم يود لو انه ينتشل عبد الرحمن من هزاله وخوفه، لقد اوشك المطر ان ينقطع، وبدأ القمر في السماء يمزق طريقا وعرا..
    وابوسمير، ما زال واقفا امامه كالشبح الاسود، غارسا قدميه الكبيرتين في الوحل، رافعا ياقة معطفه العتيق الى ما فوق اذنيه، انه ما زال واقفا ينتظر، هذا الانسان الواقف امامه، يحمل معه قدرا جديدا غامضا، يساومه ليرفع معه الاكياس من المخزن، الى مكان ما، يأتيه الامريكي كل شهر ويقف امام اكوام الطحين يفرك راحتيه النظيفتين، ويضحك بعيون زرقاء كعيون قط يتحفز امام جحر فأر مسكين.
    - منذ متى وانت تتعامل مع هذا الحارس وذلك الموظف؟
    - هل تريد ان تحقق معي ام تأخذ ثمن الطحين وتذهب لتشتري الشياطين؟اسمع ان هذا الامريكي صديقي، وهو انسان يحب العمل المنظم، انه يطلب مني دائما ان اضع الوقت بالمقدمة. وهو لا يحب التأخير في المواعيد.. علينا ان نبدأ الآن. اسرع.
    و عاد يتصور الامريكي واقفا امام اكياس الطحين، يضحك بعيون زرقاء ضيقة ويفرك راحتيه النظيفتين بحبور وطمأنينة، فشعر بضيق غريب، وخطر له ان ذلك الامريكي كان يبيع الطحين في الوقت الذي كان يقول فيه لرجال المخيم ولنسائه ان توزيع الاغاثة سيتأجل الى نهاية الايام العشرة الاولى من الشهر، واحس بنقمة طاغية، هي صدى لاحساساته يوم كان يرجع من المخازن ليقول لزوجته بصوت كسير انهم اجلوا توزيع الطحين عشرة ايام، كم هي مؤلمة خيبة الامل التي كانت ترتسم في وجهها الاسمر المجهد، لقد كان يحس الغصة تتعلق بالف ذراع في حنجرته وهي تنظر بصمت مريع الى كيس الطحين الفارغ يتأرجح على ذراعه كالمشنوق.. لقد كانت تعني في نظرتها تلك ان عشرة ايام ستمضي قبل ان يجدوا طحينا للاكل. كان يبدو له ايضا ان عبد الرحمن يفهم الموقف تماما، لقد كان يكف عن طلب الاكل بالحاح..
    في كل خيام قريةالنازحين كانت العيون المتلهفة تقع في خيبة الامل ذاتها، كان على كل طفل في المخيم ان ينتظر عشرة ايام ليأكل خبزا. هذا اذن هو سبب التأجيل، ابو سمير الواقف امامه كالشبح الاسود، غارسا قدميه في الطين قلقا لمصير مساوماته، هو والامريكي الذي يفرك راحتيه النظيفتين امام اكوام الطحين وهويضحك بعيون زرقاء ضيقة..
    لم يدر كيف رفع الرفش الى ما فوق رأسه وكيف هوى به بعنف رهيب على رأس ابي سمير، وهويصيح في وجهها ان الطحين لن يتأجل توزيعه هذا الشهر..
    كان لا يزال راغبا في ان يراه يبتسم لقميص جديد..
    فأخذ يبكي..


    2. إلى أن نعود



    .. مع أشعة الشمس التي كانت تأكل رأسه وهو وحيدا في صحراء النقب، كان يسمع صخب أفكاره في رأسه كأنها مجموعة مسامير تدق.. ولا تنغرس.
    ان انفه يعمل الآن تماما كما تعمل البوصلة، وهو يشعر أنه يقترب من هدفه، أنه يعجب لنفسه كيف لم ينقطع عن التفكير العنيف طوال هذه الساعات الممضة، لقد فكر في هذه الساعات كما لم يفكر ابدا طوال ثماني سنوات.
    ويغرس قدميه في الرمال الناعمة، ويقتلعها كما تقتلع قطعة الخشب العتيقة عن غراء لم يجف بعد كما يجب، ثمة احاسيس ضخمة تمتلك عنه ذكرياته، ان هذه الاحاسيس لتتداخل في بعضها وتتشابك حتى ليشعر انها لازمته زمنا طويلا، ويصعب عليه الآن ان يتصور نفسه كيف كان بدونها.. أنه طشان الى حد يشعر فيه بأن حلقه اضحى جافا جامدا، فلم يعد ثمة ضرورة لبقائه، ويشعر بالتالي أنه تعب، مرهق، يكاد يتهاوى، كأنما انتهى لتوه من شد قارب كبير من البحر الى رمل الشاطئ المبلول لكنه مع هذا كله، كان يسير، مندفعا كأنه يسابق نفسه، كان نصفه العلوي يتقدم منحنيا عن بقية جسده.. فالرمل الناعم يعيق سرعة قدميه، كان قصيرا، اسمر البشرة، محروقا، لم يكن في وجهه اي شيء يستلفت النظر لاول وهلة، كل ما هنالك ان لفمه شفتين رقيقتين تنطبقان في تصميم، ان شكل وجهه يثير في الانسان _ لدن تدقيق النظر شعورا بأنه يشاهد حقلا صغيرا، بل واكثر من هذا، فان الخطين اللذين يشقان جبهته يحب الانسان ان يشبههما بآثار((شفرات)) محراث مر لتوه من ذلك المكان..
    لقد بدأت رائحة ارضه تذيب احاسيسه، شيء جميل ان يشم المرء جزءا من ماضيه، ان رأسه الآن تنفتح كأنها صندوق عرس منقوش بالصدف ويحوي كل شيء، ويرى فيه داره الصغيرة الرطبة، وزوجه ترش التراب بالماء، ثم يرى نفسه آتيا من حقله بقدميه الموحلتين، ان الصورة يراها امامه هكذا، بل واكثر من ذا، كأنه يستعيد منظرا عاشه قبل دقائق فحسب، انه يرى الصورة بكل تقاطيعها الدقيقة، حتى ليرى نفسه كيف يسير، لم يتيسر له قبل الآن ان يراقب سيره بهذا الوضوح وهذا الامكان.
    وهو يقترب من ارضه، هكذا يشعر في اعماقه عندما بدت له اول (بيارة) من (بيارات) أهل قريته، ابتدأ الصوت الذي ودعه على فوهة النقب الجنوبية يدق رأسه، ويتجاوب صداه في جسده:
    - ((هي ارضك، الم تعش هناك؟ حسنا، انك تعرفها اكثر من سواك، في واحد من الحقول بنى اليهود خزانا يسقي المستعمرات القريبة، اعتقد انك فهمت، ان الديناميت الذي تحمله يكفيك...)).
    لم يتكلم بعدها، بل انطلق عبر النقب وحيدا، وحيدا الا من هذه الزوبعة التي تثور في اعماقه.. وها هي ا رضه، حيث درج يلهو، تستلقي في احضان الجبل باستسلام.
    و انزلق بين الحقول الخيالية في حذر، مستمدا من رائحة ترابه شعورا بقدرة لا تقهر، واصابعه تطبق على سكينه في تهيؤ (( وحشي)). ان رأسه تشتط به وتختلط في تاريخ الحقول التي يعرفها جيدا، ويجد عنتا شديدا في العودة الى الحقيقة..
    وعندما استدار حول حقل كان لأبي حسن- جاره- في يوم من الايام، رأى نفسه يشد رأسه عاليا وهو يرقب بشعور غامض خزان المياه، يرتفع كأنما ليصل الارض بالسماء.. ليؤمن لها الماء. لكنه ساءه ان يقف الخزان، هكذا، في الحقل المعطاء.. انه بوقوفه هذا يشوه احساسا جميلا احسه هو، وجميع جيرانه، طوال حياتهم.. انهم، الفلاحين، يحسون الارض احساسا بينما ينظر سواهم اليها كمشهد عابر، ان اي حقل، يبعث بالفلاح شعورا تلقائيا بأنه- ذلك الحقل، يلقي على موجوداته ظل الابوة مهما عظمت، فيشعر الانسان انها في حماية قوة غامضة، هائلة، مخيفة، لكنها محببة..
    ولكن الخزان يدمر هذا الاحساس، وهو واقف هناك كحقيقة مرة تعطيه نوعا آخر من المشاعر، بل أنه يحس احساسا عميقا ساكنا بأن الأرض نفسها ترفض الخزان.. لا تريد ان تحميه، انه يعني شيئا آخر، غير الري والماء، شيئا كبيرا داميا كالمأساه.
    وحبس انفاسه وهو يرقب من خلال العواسج أرضه التي تكسب عليها عرقة ليخلقها من العدم، هاهو اذن البيت الصغير الذي كان يأوي اليه مع زوجة أيام العمل المتواصل في موسم الحصاد، فلقد كان بيتاً جميلاعلى ما فيه من تواضع، أما الآن، فلقد تهدمت ناحية منه، والناحية الثانية التي تتكئ على صخور الجبل قد علاها الغبار وصيغتها ذرات رصاصية من دخان ( الموتور )، إن الخزان يقتحم حياته بشكل مزعج، لقد اقيم في الساحة التي كان يجلس فيها وزوجته قبل أن يناما، يتحدثان فيها عن الذرة والقمح، لقد كان في مكان قائمة الخزان الاقرب للدار شجرة أجاص فؤيد من نوعها، كان يحبها ويعني بها، هنا، قرب الباب المتداعي كانت تنام زوجته ليالي الصيف، كانت في تلك الأيام يدعو جيرانه للجلوس، فتسره زوجته وترش الساحة بالماء فتكسبها رطوبة محببة .
    وفجأ، وبدون أي سابق اعلام سقطت من أعماقه اللاواعية إلى حياته الواعية صورة مدوية مروعة، اجتاحته كالطوفان، هوت إلى حواسه كلها دفعة واحدة فشغلتها كلها، قبل أن يرحلا بيوم واحد ....
    بيوم واحد فقط، دخل اليهود إلى البيارات، ووجد ان عليه أن يترك ولو إلى حين- ذلك العطاء .... وجر زوجته وترك أرضه، وسار ... الا أنه قبل ان يجتاز باب حلقة المقطع، دنا إلى زوجته، والفى نفسه مشدوداً إلى دمعة كبيرة في عينيها الواسعتين .. كأنما هي ذوب حنين ... كان يريد ان يقاوم لكنه رأى نفسه محاطاً بالتساؤلات التي غرستها دمعة زوجه في عروقه الزرقاء : الى أين؟ وارضك؟ اليس من الأفضل أن تعيد الى التراب عطاءه لحماً ودماً ؟
    ودون أن يتكلم، سحب زوجه من يدها الى حلقة، ولم يستطيع ابدً أن يحرر نفسه من النداء الطيب في العيون الواسعة .
    في تلك الليلة .. شنق اليهود زوجه على الشجرة العجوز بين الساحة والجبل أنه يراها مدلاة عارية تماماً ... كان شعرها محلوقا و مربوطا الى عنقها وينزف من فمها دم اسود لماع .. لقد شدوا خصرها النحيل شدامجنونا، لم يكن في وجهها كله، ما يشير الى انها كانت، قبل هنهية، تملأ الساح رصاصا ونارا ودما، في ذلك الوقت، كان هو مربوطا الى شجرة المقابلة يشهد كل ما فعلوه عاجزا، لقد شدوه الى الشجرة بحبال الحراثة بعد ان سلخوا ظهره بالكرابيج الجلدية طوال بعد الظهر، وتركوه يشهد كل شيء، تكروه يحدق ويصيح كالمنجون .. لقد حشوا فمها بالتراب عندما قالت له مع السلامة ) وماتت. وتركوه يمضي كي يموت بالصحراء مع ذكرياته..
    انه لا ينظر الان الى هذه الصورة نظرة المشاهد، لا، ابدا، انها تتفاعل باعماق اعماقه ويحسها ويراها تنسكب على اعصابه كالرصاص المذاب، ان ذاته تتفاعل الان مع الماضي بشكل عجيب، لم يستطيع ان يخلع نفسه من الصورة الدموية، ولا ان يخلعها من نفسه، كان حاضره يمتزج مع ماضيه مزجا معقدا، ان صوت استغاثات زوجه وانينها المقطع المحروق، وصوت اسنانها تمضغ التراب، وصوت حنجرته وهي تطبق على صياحه في بحات هستيرية، كل هذا، كان يمتزج امتزاجا متشابكا بصوت الانفجار المرع، وصوت الخزان العملاق يقتلع من الوجود..
    ويمتص الدخان الاسود بعض احاسيسه الدامية، ويرنو الي الحطام بهدوء صاخب..
    لقد عاد في المساء الى خيمته، كان متعبا منهوكا، يحس كأنما قد تباعدت مفاصله عن بعضها، وعلى عضلاته ان تتوتر الى الابد كيما تنشد بينها، واحس وهو يصافح الانسان الذي ودعه قبل ان يذهب الى مهمته انه لا زال في المعركة التي بدأت منذ زمن بعيد .. وسمع صوته :ماذا ؟ انتهى كل شيء على ما يرام ؟
    - وهز رأسه في اعياء..وعاد يسمع صوت الرئيس:
    - هل انت تعب؟ وهز رأسه نفيا وهمس بصوته العميق المجروح:
    - هل اعددت مهمة صباح الغد؟
    ووصله صوت رئيسه من بعيد :
    ولكنك لا تستطيع ان تتابع غدا.. يجب ان تستريح .. -
    ودون ان يفكر اجاب : بل استطيع ..
    - الى متى تحسب انك تستطيع ان تواصل على هذه الصورة ؟
    قال وهو يسند رأسه على كيس المتفجرات :
    - الى ان نعود..

    <BLOCKQUOTE dir=rtl style="MARGIN-LEFT: 0px">
    <BLOCKQUOTE dir=rtl style="MARGIN-LEFT: 0px">
    <BLOCKQUOTE dir=rtl style="MARGIN-LEFT: 0px">
    </BLOCKQUOTE></BLOCKQUOTE></BLOCKQUOTE>
    تشي ليلي
    تشي ليلي

    نقيب  نقيب



    انثى
    عدد الرسائل : 3468
    العمر : 31
    العمل/الترفيه : .....
    المزاج : .....
    رقم العضوية : 148
    الدولة : قصص قصيرة .......غسان كنفانى Palest10
    نقاط : 6614
    تقييم الأعضاء : 1
    تاريخ التسجيل : 11/01/2008

    قصص قصيرة .......غسان كنفانى Empty رد: قصص قصيرة .......غسان كنفانى

    مُساهمة من طرف تشي ليلي الأربعاء مارس 05, 2008 10:30 pm

    شكرا لك رفيق على هذا الموضوع وتحياتي لك وارجو المزيد

    الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين...

      الوقت/التاريخ الآن هو الأربعاء مايو 08, 2024 4:26 am